“داعش” فرصة تاريخية لمباشرة الإصلاح الديني في الإسلام؟!/ خالد غزال
تسود دهشة لا لزوم لها، حيال الصعود “العظيم” لتنظيمات الإسلام السياسي، وخصوصاً ما يعرف منها بـ”الدولة الاسلامية في العراق والشام” والمختصرة بتعبير “داعش”. ليس من المبالغة القول إنّ تنظيمات الإسلام السياسي كلها، إلى أي طائفة أو مذهب انتمت، هي “دواعش”. “داعش” محصلة الدين عندما يستولي على السياسة. إنه محصلة توظيف السلطة السياسية للدين ووضعه في خدمة مصالحها، نتيجة الانهيار البنيوي واستعصاء التحديث، وسيطرة الفكر المتخلف بموروثاته وتقاليده، ولا سيما بمنظومته الفقهية الدينية.
“داعش” ليس نسخة عربية إسلامية فريدة. للذين تصيبهم الدهشة من هذا التنظيم أو من أخوته وأخواته، فيطلقون أحكاماً عامة ترمي الإسلام كدين في مجمله بـ”الدوعشة”، من المفيد أن يستحضروا التاريخ غير الإسلامي، وخصوصا الأوروبي منه لرؤية ما إذا كان “داعش” قد مر على المجتمعات الأوروبية وأسبغ عليها من النعم التي يبذرها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
“داعشيات” مسيحانية
عرفت المجتمعات الأوروبية “داعشيات” أدهى وأمرّ وأعظم مما تعرفه المجتمعات العربية راهناً. قبل أن تنقسم المسيحية طوائف ومذاهب، كان هناك تسلّط من الكنيسة على السياسة، وكان البابوات يفرضون هيمنتهم على الشعب، ولا يتورعون عن استخدام وسائل العنف ضد من يرونه مخالفا لسلطتهم. من يقرأ ممارسات محاكم التفتيش، والعذابات التي كانت تذيقها للشعوب، والأساليب المرعبة المستخدمة، يرى أنّ أساليب “داعش” العربية الإسلامية مجرد ألعاب قياساً بأخواته الأوروبيات. طوّر “داعش” الأوروبي “نضالاته” مع الانقسامات التي طالت المسيحية، والصراع الذي عرفته الطوائف آنذاك وخصوصا بين الكاثوليك والبروتستانت، فمارست كل “داعشة” منها العجائب في القتل والذبح والتعذيب، مما تسبب بمقتل مئات الألوف في معظم البلدان الأوروبية. كانت المذابح تجري “مراسيمها” وسط التهليل بقتل الكفّار والمهرطقين؛ ذلك كله من أجل إعلاء راية الله، كما يجري القتل “الداعشي” الإسلامي وسط تهليلات وتكبيرات “الله اكبر”. كان القتل حلالاً من كل فئة لأنها تعتبر نفسها معبّرة عن الدين المسيحي الحق، فيما تقيم الطوائف الأخرى في الكفر، مما يبرر القضاء عليها وإفناءها.
هل نصل من ذلك إلى القول إن الدين المسيحي هو دين عنف وإرهاب استنادًا إلى ما جرى في أوروبا؟ الجواب: نعم ولا في الوقت نفسه. الجواب نعم، عندما نستعيد أن كل دين يحوي موضوعياً عناصر إرهاب، وذلك عندما يعتبر نفسه محتكرًا للسماء، وأنه الدين “المصطفى”، وأنه وحده الدين الحق، وعندما يعطي رجاله لأنفسهم سلطة السيطرة على البشر واعتبار أنفسهم يحكمون باسم الله؛ آنذاك يصبح الإرهاب من ضرورات السلطة والنشر الملزم للدين. يصنف اللاهوت المسيحي المسيحية بأنها دين المحبة، وبأن المسيح أتى لنشر المحبة والتسامح بين البشر، وهذا صحيح، تدل عليه مواعظ المسيح وتعليم تلامذته. لكن ذلك لم يمنع أن يكون العنف وأعظم فظاعات الذبح والإبادة في صورها المذهلة، قد مورست باسم دين التضحية والتسامح، بشكل لم يعرفه التاريخ سابقاً خلال الحروب الطائفية والمذهبية. لم تتمكن المجتمعات الأوروبية من أن تتخلص من “دواعشها” إلا بعد إنهاء تلك العلاقة بين الدين والسياسة، وفصل الدين عن الدولة، واعادة الدين إلى موقعه الروحي والأخلاقي والإنساني. لم يكن لهذا الأمر أن يتحقق الا بعد سلوك المجتمعات الأوروبية طريق الحداثة، في الفكر والثقافة والاقتصاد والسياسة، وبعد بروز قوى حاملة هذه القيم، وهذا مكّنها من التغلب على سلطة المؤسسات الدينية وإعادة السلطة للشعب بعدما احتكرها رجال الدين باسم الله.
… و”داعشيات” إسلاموية
“داعش” العربي – الإسلامي وأخوته وأخواته، هم الأبناء الشرعيون للدين الاسلامي بمعنى، وللمجتمعات العربية وبناها الموروثة على السواء بمعنى آخر. تسود حفلة نفاق في العالم العربي هدفها التبرؤ من “داعش” وتنزيه الدين الإسلامي من فكر هذا التنظيم وممارساته. يشارك في الحملة رجال دين وفقهاء وقادة سياسيون. لا شك أن حجم الفظاعات التي يرتكبها “داعش” وسائر تنظيمات الإسلام السياسي قد فتح الأعين على هذا العنف المستند في نظر أصحابه إلى المشروعية الدينية. من المؤكد أن هذه الأصوات المستنكرة والرافضة لأن يكون “داعش” يعبّر عن الدين الإسلامي ضرورية وواجبة، وأهميتها أنها تستعيد ما هو أخلاقي وإنساني وروحي وتسامحي في الإسلام، وهذه أمور أساسية تعبّر فعلاً عن الإسلام وتبرهن عليها نصوصه المقدسة. لكن هذا الاستنكار يصبح بلا معنى إذا لم يترافق مع التساؤل الحقيقي: هل يبرر الإسلام الإرهاب؟ وما هي الخلفيات النظرية التي تستند اليها تنظيمات الإسلام السياسي في تبرير العنف؟ وهل يمكن النقاش في مرجعيات الإسلام السياسي النصوصية ونزع المشروعية عنها؟ هل يمكن أن يشكل الصعود الإرهابي باسم الإسلام، مناسبة للولوج إلى إصلاح ديني حقيقي؟
لا يفيد التجاهل الذي يتعمده مهاجمو “داعش”، والذي بموجبه ينفون أن يكون الإسلام في نصه المقدس، أي القرآن، يعطي مشروعية للإرهاب الذي يمارسه الإسلام السياسي وفي مقدمه “داعش”. يستند هذا الإسلام إلى آيات في القرآن تشرّع العنف ضد غير المسلمين، وهي آيات نزلت في سياق الصراع من أجل نشر الدين الإسلامي زمن الرسالة، ولمواجهة العنف الذي جرت ممارسته ضد النبي والمسلمين في ذلك الزمن. لم يعد لهذه الآيات من موقع في الزمن الراهن. تالياً يمكن القول إنها لا تمثل الإسلام. لكن هذا الرأي يحتاج إلى أمور متعددة. لم تُجر المؤسسة الدينية مراجعة للنصوص المقدسة استنادًا إلى قراءة تاريخية لها تأخذ في الاعتبار ظروف نزولها وأسباب هذا النزول، لتفرز بين ما هو مستمر في صلاحيته لهذا الزمن ولأزمان أخرى. المقصود بذلك ما يتعلق بجوهر الدين الإسلامي حيث الأساس فيه هو القانون الأخلاقي الكلي وما يترتب عليه من التسامح والمحبة والمعاملة بالحسنى، إضافة إلى الجانب الروحي والإنساني المطلق. مما يعني إعادة النظر في مدى صلاحية سائر النصوص غير المتصلة بهذا الجانب الأخلاقي والإنساني، ومدى مشروعيتها، وفي مقدمها آيات العنف والتمييز بين المواطنين على أساس الدين.
تتعاطى المؤسسات الدينية والفقهاء والعلماء الذين يعتبرون أنفسهم قيّمين على الدين الإسلامي، مع النص القرآني، على أنه “اللوح المحفوظ” الذي لا يسقط منه لا حرف ولا كلمة، الصالح لكل زمان ومكان، وأنه يشكل دستور المسلمين وأساس القوانين التشريعية الواجب التزامها. ينطلق الإسلام السياسي من هذه الوجهة في قراءة النص المقدس، ويعتبر مجاهدوه أنفسهم منفّذين لقول الله في تعاطيهم مع البشر وعلى الأخص من غير المسلمين. أفصح كثيرون، من بن لادن إلى الزرقاوي عن هذه الوجهة، بالضد من الذين اتهموهم بالخروج عن الإسلام في ممارساتهم الإرهابية. رأي بن لادن وأتباعه، يعتنقه كثر من المسلمين، يرون في الأعمال الإرهابية المنفذة ضد غير المسلمين، وحتى ضد المسلمين الذين لا يقولون قولهم، أعمالا مشروعة ومبررة دينياً. هذا جانب أول في فكر “داعش” النظري ومرشدها العملي.
من جانب آخر، ولد “داعش” من رحم مجتمعات عربية تسود فيها ثقافة موروثة يجري بناؤها وشحنها كل يوم في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات. تشكل كتب الفقه، المرجع الذي تستند اليه تيارات الإسلام السياسي، وهو فقه وُضع في زمن معين، ولم يكن بعيدًا من السياسة وهيمنة السلطان على الثقافة والمثقفين. تركز هذه الكتب على خلق أحكام تشريعية انطلاقاً من النصوص المقدسة التي تتصل بزمن النشأة والحروب الإسلامية مع سائر المكوّنات الموجودة آنذاك، وتمدّ كتب الفقه تشريعاتها إلى أحاديث الرسول فتقتطف منها ما يناسب موقعها السياسي ومصلحة الطائفة أو المذهب؛ مع الإشارة إلى أن شكوكاً تدور حول معظم الأحاديث وحول مدى صحتها؛ وهي الأحاديث التي جرى تدوينها بعد وفاة الرسول بمئة وخمسين عاما. معلوم ان كل فئة من فرق المسلمين وطوائفهم، كانت تخترع أحاديث وتنسبها إلى الرسول، تصبّ في مصلحة موقعها وموقفها في السياسة خلال الصراع بين الفرق والمذاهب. ثمة خطورة كبرى يدفع المسلمون ثمنها، في كتب الفقه هذه التي اعتبرها أصحابها نصوصاً مقدسة توازي النص القرآني، بل وتتغلب عليه في كثير من الأحيان، فيما هي نصوص بشرية مرتبط إنتاجها بزمن معيّن وبدرجة وعي هذا الفقيه في ذلك الزمن، في حين أن العالم تغيّر في علومه وثقافته ووسائل الاتصال، بما يتجاوز بكثير حدود المعرفة عند إنتاج الفقه. الأغرب أيضًاً أن من يستمع إلى رجال الدين وخطباء المساجد، يلاحظ أن النص القرآني هو الأضعف والأقل رواجاً، فيما تطغى فتاوى الفقهاء القديمة. لا نرى فقهاء يتنطحون لإنتاج فقه حديث يواكب العصر والزمن والتطور، وكأن التاريخ قد توقف قبل ألف عام ولا حاجة لأي اجتهاد بعد ذلك.
يتغذى “داعش” وأخوته وأخواته من كتب التعليم الديني المليئة بالحقد والكراهية ضد غير المسلمين، والمنطلقة أساساً من كون المسلمين “خير أمة أخرجت للناس”، ومن “إن الدين عند الله الإسلام”، مما يعني ضرورة انضمام البشر إلى هذا الدين، وإلا اعتبروا من الكفار. هذه الكتب التي تعج بها المعاهد الدينية في كل مكان في العالمين العربي والإسلامي، وتشرف عليها المؤسسات الدينية المختلفة والمتنوعة، تزرع في عقول المسلمين منذ الصغر إرهاباً كامناً ينمو ويترعرع ليجري توظيفه لاحقاً تحت حجة نشر الإسلام وتحقيق إرادة الله فيه.
تشكل الفضائيات الدينية التي يتجاوز عددها الخمسمئة محطة أهم الوسائل في إيصال هذا الفكر ومنظومته الفقهية إلى كل مكان في العالم، فيدخل الى بيوت المسلمين، من دون استئذان، ويساهم مساهمة أساسية في تكوين ذهنية المسلم، وزرع “العظمة الشخصية” عنده، لأن الله اختاره وفضّله على العالمين، بما يؤسس لموقف عنصري من الآخر غير المسلم. إلى الفضائيات، تشكل المساجد موئلاً مهماً جدًا لزرع الفكر التكفيري لدى المسلم: المسجد بما يمثله من هيبة، كونه بيت الله؛ والخطيب بما يسبغه على نفسه من أنه ينطق بكلام الله، بل ويمثله، والوعود التي يطلقها الخطيب عن الجنة المنتظرة للمجاهدين في سبيل الله ولقاء الرسول والتمتع بالحور العين إلى أقصى الحدود. يجري حشو العقول بأن النعيم كل النعيم هو في الجنة وليس في الحياة الأرضية. يشكل هذا التنظير الإيديولوجي مادة مهمة تجعل الشاب المسلم يقدم على العمل الإرهابي، لأنه الممر إلى النعيم في الجنة.
يبقى أخيرًا القول إن الأعمال الإرهابية التي يقوم بها “داعش” وأخوته وأخواتها، انما تستلهم “الزمن الجميل” الذي كان سائدًا، من وجهة نظره، في المرحلة الإسلامية الأولى وخلال عهود الصحابة. لمن يراجع تاريخ الصراعات الإسلامية – الإسلامية، والصراعات مع الشعوب الأخرى، يكتشف أن الزمن يعيد نفسه، وما نستهوله من ممارسات في القرن الحادي والعشرين، سبق أن عرفه العرب والمسلمون في تاريخهم السحيق. وما استعادة تلك التقاليد في التعاطي مع الخصوم سوى ترجمة مقابلة لطريقة قراءة النص الديني بحرفيته. ليس في الأمر غرابة سوى لدى ابناء الزمن الحاضر، زمن الاعتراف بالآخر وحقوق الإنسان والعلاقات السلمية وغيرها. أما بالنسبة إلى “الدواعش”، فزمننا هو الجاهلية وزمن الانحطاط الأخلاقي وزمن الكفر وزمن الارتداد عن الدين. الحل في نظر “الدواعش” هو إعادة المسلمين وغير المسلمين إلى “زمنهم الجميل” لكي تستقيم أمور الدين والدنيا.
النهار