داعش” و”النصرة”.. “قاعدة” واحدة بلهجتين وأميرين أخفق الظواهري في توحيدهما
بعد شهور قليلة من بدء الثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسد عام 2011، فتحت أجهزة الأمن السورية أبواب سجون كان “مدفوناً” وراءها ناشطون ينتمون في غالبيتهم إلى التيار الجهادي وبعضهم سُلّم إلى دمشق بتسهيل من أجهزة استخباراتية غربية. لم تعترف دمشق على مدى سنوات بأن أحداً من هؤلاء مسجوناً لديها. وما ساعد في إبقاء وجودهم في سوريا سراً لا يعرف به أحد أن الأجهزة الغربية التي ساعدت في اعتقالهم وتسليمهم إلى نظام بشار الأسد لم تكن تريد أن تظهر في الصورة، فأبقت دورها بعيداً عن الأضواء. كانت تلك أيام التعاون بين أجهزة الاستخبارات الغربية والسورية في إطار “الحرب على الإرهاب”. لكن مع اندلاع الثورة على بشار الأسد في 2011، سارعت الدول الغربية إلى إعلان وقوفها إلى جانب مطالب الشعب بتغيير النظام. أدى موقف الغرب إلى انقطاع شبه كامل في الاتصالات بين الأجهزة الأمنية السورية والغربية، علماً أنها كانت في الواقع قد جُمّدت إلى حد كبير، لأسباب مختلفة، قبل فترة من بدء “الربيع العربي”.
كان واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك أن إخراج نظام بشار هؤلاء الجهاديين، وبعضهم من كبار المنظّرين المحسوبين على تنظيم “القاعدة”، أُريد منه توجيه “رسائل” من النظام السوري للغرب. إحدى هذه الرسائل قد يمكن قراءتها بهذا الشكل البسيط: تريدون تغيير النظام، لكننا إذا رحلنا فلن تكون سوريا سوى في يد خصومكم “الجهاديين” الذين ساعدتمونا أنتم في اعتقالهم!
لم تمر أيام طويلة على خروج الجهاديين من سجون النظام حتى بدأت تختفي أخبارهم واحداً تلو الآخر. بعضهم اختفى كلياً من دون أن يُعرف ما إذا كان قد أعيد اعتقاله بعدما “وصلت الرسالة” المطلوبة إلى أجهزة الاستخبارات الغربية. لكن آخرين من المفرج عنهم سرعان ما التحقوا بمجموعات مسلحة كانت قد بدأت تستعد لقتال النظام.
كان القمع الشديد للاحتجاجات السلمية كفيلاً وحده بانتاج أجيال من الشباب الثائر الذي يبحث عن أي مجموعة مسلحة يمكن أن تحمي حيه أو تدافع عن عرضه وتنتقم من النظام الذي نكّل بأهله. وتعزز وضع هؤلاء الثوار المدنيين بانشقاقات واسعة في صفوف قوات الأمن والجيش حيث تم تشكيل كتائب عسكرية محلية أُطلق عليها عموماً “الجيش السوري الحر”. لكن إضافة إلى هذا الجيل من الثوار المحليين والعسكريين المنشقين كانت هناك أجيال أخرى من الشبان المسلمين الذين بدأوا يتدفقون إلى سوريا من أنحاء المعمورة للمساعدة في محاربة النظام. كان كثير من هؤلاء الوافدين، بلا شك، يحمل أجندة أيديولوجية واضحة تعتبر ما يحصل في سوريا جزءاً من حرب على سنّة أهل هذا البلد.
وفي ظل مثل هذا الوضع المشتت كان طبيعياً أن تتنافس هذه المجموعات المختلفة من الثوار على استقطاب أكبر نسبة من المتطوعين لقتال النظام. وكان طبيعياً أيضاً أن يلتحق المؤدلجون دينياً بتنظيمات مؤدلجة دينياً مثلهم، فظهرت جماعات سورية عديدة تحمل كلها عناوين إسلامية، لكن نشاطها كان دائماً ما يوضع في الخلف نتيجة ظهور جماعتين غريبتين إلى حد ما دخلتا الحرب ضد النظام بارتباط خارجي واضح: جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
تعود علاقة النصرة والدولة إلى سنوات مضت. كان العراق الساحة التي التقى فيها الطرفان. فقد جاء السوريون بأعداد كبيرة للمشاركة مع إخوانهم العراقيين في “الجهاد” ضد الأميركيين والحكومة العراقية التي اعتبروها عملية لهم (وللنظام الإيراني في آن واحد). لم يكونوا وحدهم بالطبع، فقد استقطب “الجهاد” في العراق أعداداً كبيرة من الشباب العربي. لم يجد نظام بشار الأسد وقتها أي مشكلة له في أن يذهب هؤلاء إلى العراق. في الحقيقة، كان سعيداً بذهابهم، بل غض الطرف عنهم وساعدهم في أحيان كثيرة في عبور حدوده الطويلة نحو العراق. كان يعتقد أن ذهاب هؤلاء إلى بلاد الرافدين كفيل بالمساعدة في إغراق الأميركيين أكثر فأكثر في “مستنقعهم العراقي”، وكان سيحول بالتالي دون أن تنقل إدارة جورج دبليو بوش نظرها نحو سوريا، بعد تهديدات صدرت عن بعض المسؤولين الأميركيين، عقب إطاحة نظام صدام حسين في 2003، ومفادها أن تغيير النظام في سوريا سيكون هدفهم المقبل بعد تغيير نظام صدام في العراق. وقد نجح رهان النظام السوري وقتها على الجهاديين الآتين من حدوده إلى العراق. إذ ساهمت تفجيراتهم الضخمة هناك وبحور الدماء التي سالت على أيديهم حاصدة عراقيين وجنوداً أميركيين في دفع إدارة بوش إلى التركيز على طريقة للخروج من العراق بدون هزيمة بدل التركيز على تغيير نظام بشار.
كان من بين هؤلاء “الجهاديين” السوريين الذين قاتلوا في العراق شاب يدعى “أبو محمد الجولاني”، وهو كما توحي كنيته يتحدر من هضبة الجولان السورية التي تحتل إسرائيل الجزء الأكبر منها. وكان الجولاني، كما يبدو، ما زال في العراق عندما بدأت الثورة ضد الأسد. فحزم حقائبه على عجل عائداً إلى بلاده وكانت الثورة ما زالت سلمية إلى حد كبير. عاد بإذن من “أميره” – أمير “دولة العراق الإسلامية” أبو بكر البغدادي (إبراهيم الحسيني السامرائي القرشي).
لكن ما حصل عقب عودة أبو محمد الجولاني إلى سوريا يبقى محل جدل، في ظل صمته هو تحديداً عن ملابسات عودته. وفي أي حال، يبدو مؤكداً أن الجولاني عمل بالفعل على تنظيم خلايا “جهادية”، وبعضها كان موجوداً بالفعل وتم إحياؤه على أنقاض شبكات سابقة كانت تتولى تسهيل نقل الجهاديين للقتال في العراق. بين نهاية 2011 وبداية 2012 كانت الثورة السورية قد أخذت منحى عسكرياً متزايداً في ظل إصرار النظام على قمع الاحتجاجات السلمية. فأطلق الجولاني تنظيمه الخاص تحت عنوان “جبهة النصرة لأهل الشام”. وسرعان ما حققت الجبهة نتائج لافتة على الأرض، ليس بالضرورة في شكل سيطرة ميدانية على الأرض ولكن بفعل سلسلة من التفجيرات الضخمة “الانتحارية” – تعتبرها الجبهة “استشهادية” – على غرار ما كانت تقوم بها عندما كانت تعمل في العراق تحت مظلة “الدولة الإسلامية” لأبي بكر البغدادي وقبله سلفه أبو عمر البغدادي الذي قُتل مع “وزير الحرب” في “حكومته” أبو أيوب المصري (مندوب “القاعدة” في العراق وخليفة أبو مصعب الزرقاوي).
لفتت عمليات “جبهة النصرة” في سوريا الأنظار، كما جلبت إدانات واسعة كونها تؤدي أحياناً إلى مقتل مدنيين بتفجيرات تستهدف جنود النظام ومقراتهم والتي تكون في بعض الأحيان مقامة في أحياء سكنية. والظاهر أن الأميركيين المتطورين في تقنيات المعلومات وعمليات التجسس والتنصت تمكنوا منذ البداية في كشف علاقة الجولاني وجبهة النصرة بقادة دولة العراق الاسلامية. وقد يكونون استنتجوا ذلك من خلال تنصتهم على مكالمات هاتفية أو رسائل بالبريد الالكتروني، أو حتى من خلال معلومات سربتها لهم الحكومة العراقية أو حتى النظام السوري نفسه. لكن لا يُستبعد أن الأميركيين يحتفظون ببصمات صوتية لعدد من السوريين – قد يكون الجولاني بينهم – الذين كانوا مرتبطين بالدولة الإسلامية في العراق، وتم رصدهم بسهولة عندما حاولوا الاتصال برفاقهم السابقين في بلاد الرافدين.
ومهما كانت طريقة الرصد والمتابعة، فإن الأميركيين كانوا متأكدين منذ البداية أن جبهة النصرة ليست سوى جزء من فرع القاعدة العراقي – دولة العراق الاسلامية – وأن الكلمة العليا هي لـ “الأمير” البغدادي.
وإذا كان هذا هو الواقع، إلا أنه يبدو أن الجولاني رأى وضعاً مختلفاً في سوريا عندما رجع من العراق. إذ بدا ميالاً في شكل متزايد لعدم الظهور بمظهر أنه “ممثل القاعدة في سوريا”، ربما لمعرفته أن الغرب سيكون حذراً في تقديم دعم للثورة السورية إذا ما كانت القاعدة جزءاً منها. كما أن الجولاني وجبهة النصرة بديا أيضاً ميالين إلى عدم تنفير الناس منهم، ولا الاصطدام مع فصائل الثوار المختلفة، التي يراها الجهاديون غير إسلامية في شكل كاف. اعتبر الجولاني، كما يبدو، أن الوقت ليس وقت تنفير هذه الفصائل من خلال إثارة مواضيع خلافية دينية خشية أن يدفعها ذلك إلى أحضان النظام، فيتكرر “خطأ” العراق عندما نفّر تنظيم “القاعدة” فصائل في المقاومة ودفعها الى تشكيل صحوات وجّهت إليها هي (القاعدة والدولة الاسلامية) ضربات مؤلمة بقدر ما وجهها الاميركيون أنفسهم. كما كان لافتاً أن الجولاني لم يخرج علناً ولو لمرة واحدة للرد على اتهام الأميركيين له بالانتماء إلى القاعدة، على رغم انه كان في امكانه ذلك لو اراد توضيح حقيقة مزاعم الاميركيين.
لكن البغدادي الذي سمح للجولاني بالعودة الى سوريا لتنظيم العمل المسلح ضد الاسد، لم يكن سعيداً على الأرجح بما يقوم به الجهادي السوري. إذ يبدو انه كان يعتقد ان الجولاني ذهب لتنفيذ توجيهاته بإنشاء خلايا تتبع القاعدة وتكون خاضعة له بوصفه الأمير على الجولاني عندما كان يعمل تحت امرته في العراق. وقد تكون حصلت على الأرجح مراسلات واتصالات بين الجانبين دفعت البغدادي إلى أخذ زمام المبادرة بنفسه عندما وجد الجولاني متردداً في إخضاع النصرة لسلطة الدولة الاسلامية في العراق. فأعلن في شريط صوتي، في 9 نيسان (ابريل) 2013، قيام الدولة الاسلامية في العراق والشام بانضمام جبهة النصرة إلى “الدولة” في العراق والتي باتت الآن تغطي بلاد الشام وبلاد الرافدين.
لكن ما كاد البغدادي يعلن تمدد دولته الإسلامية إلى الشام حتى سارع الجولاني إلى إعلانه رفضه بشريط صوتي مماثل أكد فيه أنه لا هو ولا قادة تنظيمه تم مشاورتهم مسبقاً على الحاق جبهة النصرة بالدولة الاسلامية في العراق. لكن الجولاني الذي أقر بـ “فضل” البغدادي عليه وبأنه حصل على مساعدات منه لعمل في سوريا، قال إن بيعته هي لزعيم تنظيم القاعدة في وزيرستان أيمن الظواهري وليس لفرع القاعدة في العراق ممثلاً بالبغدادي.
إزاء هذا الخلاف الذي خرج إلى العلن بين مجموعتين يُفترض أنهما تتبعان القاعدة، اضطر الظواهري الى التدخل محاولاً الوساطة بينهما وبما أنه بعيد عن ساحات القتال في سوريا، فقد استعان بقيادي جهادي يعرفه منذ أيام أفغانستان، هو “أبو خالد السوري” طالباً منه أن يسعى إلى التوفيق بين النصرة والدولة الاسلامية وايجاد حل للخلاف بينهما. كان أبو خالد واحداً من الذين ساعدت أجهزة الاستخبارات الغربية نظام الأسد في توقيفه بعد مغادرته أفغانستان عقب الهجوم الاميركي الذي اطاح حركة طالبان عام 2001. وكان أيضاً واحداً من الجهاديين الذين أفرج عنهم النظام بعد بدء الثورة، فسارع إلى الالتحاق بفصائل جهادية محلية (أحرار الشام الإسلامية).
لكن على رغم جهود أبو خالد إلا أن الفجوة بين النصرة والدولة الاسلامية لم يكن في الإمكان ردمها، فوجّه الظواهري تعليماته بأن تبقى الأمور على حالها – أي أن تبقى النصرة تنظيماً مستقلاً والدولة الاسلامية تنظيماً مختلفاً – شرط أن يعمل كل من الطرفين بطريقته ضد النظام وبدون حصول مواجهات بينهم على القيادة. لكن هذا الحل الموقت صب إلى حد ما في خانة جبهة النصرة، ولم يعجب البغدادي الذي أمر بإكمال تمدد “الدولة الاسلامية في العراق والشام” داخل سوريا ولو على حساب غيرها من الجماعات بما في ذلك النصرة. ويبدو أن هذه المهمة أوكلت إلى أحد قادة “الدولة” السوريين وهو أبو محمد العدناني الشامي الذي يعتقد أنه من إدلب في شمال البلاد. والعدناني حالياً هو الصوت الأكثر ظهوراً باسم الدولة الاسلامية ويعتقد أنه المسؤول المباشر عن عمليات الدولة في سوريا وربما يكون نائب الأمير العام (على غرار فرع القاعدة في جزيرة العرب: الأمير يمني ونائبه سعودي).
وفي ظرف شهور قليلة على بدء البغدادي تمدده داخل سوريا، تمكنت “الدولة الاسلامية” إلى حد كبيرمن تهميش جبهة النصرة والعديد من الجماعات الأخرى بما في ذلك تلك التي تحمل أسماء إسلامية. وتحظى “الدولة الإسلامية” حالياً بسيطرة واسعة على أجزاء من شمال سوريا وشرقها على الحدود مع العراق وتركيا. كما أنها تحظى بدعم واضح من الجهاديين الأجانب الذين يتدفقون على سوريا والذين عادة ما يكونون ميالين الى الإنضمام إلى مجموعة تتمتع بأيديولوجية واضحة. والدولة الاسلامية، في هذا المجال، صاحبة موقف واضح يقضي بإقامة إمارات إسلامية على الارض السورية تكون جزءاً من دولة خلافة تضم العراق والشام. كما أن الدولة الإسلامية لا تتردد في مواجهة غيرها من الجماعات التي تراها لا تلتزم بالشرع، بحسب فهمها له، كما حصل مع لواء عاصفة الشمال ومع بعض مجموعات الجيش الحر في ريف حلب وريف إدلب وكما حصل في الرقة ودير الزور في شرق وشمال شرقي سوريا (الصدام مع الأكراد السوريين أيضاً). وهذا يضع “الدولة الإسلامية” في وضع مختلف إلى حد كبير عن جبهة النصرة التي على رغم مبايعتها الظواهري فإن أيديولوجيتها تبدو مطاطة إلى حد ما من خلال تعاونها مع مجموعات “وطنية” أو “إسلامية” مرتبطة بالجيش الحر.
وفي ظل مثل هذا الوضع فإنه لا يُستبعد أن تلجأ “الدولة الإسلامية” إلى صدام مع “النصرة” نفسها، إذ أصرت على البقاء تنظيماً مستقلاً أو استمرت على تعاونها مع من يعتبرهم البغدادي والعدناني “مرتدين”.
لندن ـ رانيا كرم