داعش يتسلّم تدمر… داعش يسلّم تدمر/ عمر قدور
تبدو قوات النظام والميليشيات الشيعية على وشك استرداد مدينة تدمر من داعش بعد نحو ثلاثة أشهر من الانسحاب منها لمصلحة التنظيم، وهذه ليست تهمة لأن ما أوردته وسائل الإعلام الروسية الحليفة آنذاك نص صراحة على تخلي قوات النظام عن المدينة، مع ترك كمية ضخمة من العتاد المتطور هديةً للتنظيم. وكما نعلم، كانت قوات النظام مدعومة بالطيران الروسي قد استعادت المدينة بسهولة قبل نحو عام من الآن، بعد أن أدت سيطرة داعش دورها في البروباغندا العالمية حول خطورة الإرهاب، وربما بعدما أدت دورها في مسح تاريخ معتقل سجن تدمر السيىء الصيت.
قبل الانسحاب من تدمر، كان داعش قد انسحب من بلدة تادف القريبة من الباب، التي سيطرت عليها قوات «درع الفرات» مدعومة بتغطية تركية. تسليم تادف وقرى أخرى لقوات النظام هو الوجه الآخر للمقاومة العنيفة التي أبداها التنظيم في الباب، حيث استغرقت معركة تحرير الأخيرة حوالى أربعة أشهر، قام خلالها داعش بتلغيمها على نحو مكثف لإيقاع أكبر أذى إثر انسحابه.
ومعلوم أن تسلم وتسليم المناطق لا يقتصران على داعش فقط، فالنظام سلم مناطق التواجد الكردي إلى ميليشيات الـPYD. والأخيرة ردت له الدين مرات عدة، سواء بمشاركته قتال فصائل معارضة أو بتسليمه أراضي أخرى، كما حصل أخيراً في خصوص قرى تابعة لمدينة منبج جرى تسليمها بغية محاصرة قوات درع الفرات.
لا نتحدث عن ذكاء النظام، إذ نجح في محاصرة فصائل المعارضة بداعش ووحدات الحماية الكردية، فالمخطط مكشوف منذ سنوات، والتصدي له غير ممكن مع توافر دعم دولي أو إقليمي للأطراف الثلاثة. وتحالف مكشوف من هذا القبيل لا بد أن يكون مرصوداً من قبل كل أجهزة الاستخبارات المعنية بالملف السوري، مثلما كان تحالف النظام مع تنظيم القاعدة في العراق مكشوفاً من قبلها، الأمر الذي يُغطى عليه بإصرار وتواطؤ دولي مدهش تحت يافطة «الحرب على الإرهاب»، من دون وجود أية نية لاستئصال الإرهاب حقاً.
ثمة تواطؤ على توصيف الإرهاب بتعيينه في منظمات خارجة على القانون، وهذا التعريف لا يلحظ، أو لا يريد ملاحظة، أن تلك التنظيمات لم يكن بوسعها التحول إلى قوى شبه نظامية بقوتها الذاتية، ولا حتى بمحض قدرتها على ملء فراغ جيوسياسي موقت في بعض مناطق الصراعات. التصور الذي يريد قصر التعامل مع منظمات إرهابية هو تصور انتقائي عن سابق قصد، وهو متخلف عن الوقائع بتصميم أيضاً. عهد المنظمات الإرهابية انتهى فعلياً منذ تقدمت أنظمة للتعاون مع تلك الشبكات، لقد فعلت ذلك الولايات المتحدة في أفغانستان، ثم فعله النظامان الإيراني والسوري وسواهما من أنظمة المنطقة.
تجاهل استثمار الأنظمة في التنظيمات هو المحرك الأكثر فعالية للحرب الحالية على الإرهاب، فهو الذي يرسم السياسات العامة لها، ويجعل تلك الحرب بلا أفق تنتهي عنده. هنا يقفز التلطي وراء القول بوجود عوامل ثقافية مولّدة للإرهاب، بحيث لا يمكن التنبؤ بنهايته إلا وفق هندسة اجتماعية كبرى غير ممكنة على الأرجح. السياسة التي تنص على تعاون الأنظمة التي تستثمر في الإرهاب من أجل القضاء عليه يعلم أصحابها أنها لا تنتج حلولاً مستدامة، لكنهم يقنعون أنفسهم (وناخبيهم في الغرب) بأن البراغماتية أقصر الطرق للكسب، بذريعة أن التحالف مع تلك الأنظمة كفيل بدفعها للجم الإرهاب، والحفاظ عليه ضمن حدود اللعبة الإقليمية فحسب.
داعش في حد ذاته قد يكون فضيحة نموذجية، تضافرت من أجلها كل أنواع التواطؤ. إذ يصعب تصور الانتقال إلى «الدولة» و «الخلافة» بالسرعة والحيوية اللتين حصل بهما ذلك. يصعب في الوقت ذاته تصور وجود غباء تختص به قيادات التنظيم، لتقتنع بأن مشروع دولتها قابل للاستمرار، من دون وجود مروحة من العلاقات الاستخباراتية التي تشجع على مثل هذا الظن. وليس جديداً سعي الأذرع الاستخباراتية نفسها إلى التخلص من التنظيمات الوظيفية، عندما تنتفي الحاجة إليها، وأن تبقى سجلات التعامل معها مكتومة لا من قبلها فقط، وإنما أيضاً من قبل استخبارات قوى عظمى لا تمانع في استمرار اللعبة بين الحين والآخر، أو لا تريد تحمل العبء السياسي والأخلاقي لكشفها أمام الرأي العام.
ولئن كان مفهوماً سلوك الدول ومصالحها، وسلوك الأنظمة ومصالحها، فما لا يتسم بالاتساق نفسه هو تعاطي المتضررين مع مسألة الإرهاب. ثمة وعي يتنامى حول علاقة المنظمات الإرهابية بدول وأنظمة، لكنه لم يبلغ بعد عتبة الحسم والقطع إزاء تلك التنظيمات، وما يعيق الوصول إليها ليس العامل الثقافي الديني وحده. هنا أيضاً تحضر البراغماتية السياسية، على قاعدة الظن بأن المعركة الظاهرة بين المنظمات والأنظمة قد تضعف الطرفين، القاعدة التي قد تحوز بعضاً من الوجاهة في ما لو وجد طرف ثالث جاهز للكسب على حساب الضعف المُتوخى.
التشكي وحده من تضافر الأنظمة والتنظيمات الإرهابية لا يَعِد بثقل سياسي ما لم يقترن بالتصدي للاثنين، وما لم يقترن بوعي لا يجعل من داعش الاستثناء البشع بين تنظيمات أخرى غير بعيدة عنه. ليس بأحسن حالاً ذلك التعويل على قيام «المعتدلين» بمحاربة «المتطرفين»، لأنه يضع المسألة في إطار فقهي، ويفتقر إلى النزاهة إذا استند إلى براغماتية التخلص من الطرفين.
ربما يلزم أولاً رؤية أن الإرهاب ليس مشكلة تخص العالم، سواء تواطأ الأخير على وجوده أو حاربه، هو مشكلتنا في المقام الأول لأننا الأكثر تضرراً منه. وفي المقام الأول هو مشكلة سياسية، أو بالأحرى هو نتيجة انعدام الأفق السياسي إلى درجة أن تصبح العدمية السياسية شأناً عادياً. والعدمية السياسية، كما لا يُلاحَظ دائماً، سمة يتشاطرها الاستبداد على نفس السوية مع الإرهاب، لذا لا وجه للمفاضلة بين عدمَين.
الدرس الذي تقدمه القضية السورية على هذا الصعيد شديد الوضوح، وقاحة عروض من نوع تسليم وتسلم تدمر تدل على استهتار مبني على فائض من القوة، لكنه أيضاً مبني على صلاحية معادلة «بشار أو داعش» واستثمارها من طرفيها. المؤسف في الأمر مساهمة المتأذين التي جعلت التمادي في إهانة العقل ممكناً.
الحياة