صفحات الرأي

داود الصايغ يتحدّث في كتابه الجديد عن “وراثة بشار الأسد اللبنانية”


ويروي بعضاً من رواية الرئيس الفرنسي جاك شيراك عن ولادة القرار 1559

كتاب الدكتور داود الصايغ الجديد “ما بين لبنان وسوريا، من النظام الى الدولة” الذي تنشره “دار النهار للنشر”، يلقي الضوء على الحقبة السورية في لبنان، ما بين 1975 وحتى اليوم. ففي هذه المراجعة الواضحة والموثقة ما يساعد على فهم الحقب الثلاث من الوجود السوري في لبنان، الذي تغير مفهومه وطبيعته جذريا على طول تلك السنوات، وانتهى الوضع الى اسوأ نوع من العلاقات بين بلدين جارين. والهدف من هذا الكتاب، في اجواء الربيع العربي والثورة السورية المتفاقمة، ليس المراجعة فقط مع عهدي حافظ الاسد وبشار الاسد، في الاجواء التي مهدت للتغيير، بل لمحاولة التطلع الى الامام. أي لإرساء علاقة بين لبنان وسوريا بعيدة عن هواجس نظام الحكم السوري. علاقة تقوم بين دولتين سيدتين، وليس بين نظام حكم ودولة مجاورة، على شعارات واوهام وخلفيات متنوعة. في هذه الصفحات، المستقاة من الفصل الثالث “وراثة بشار الاسد اللبنانية”، بعض من رواية الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك عن ولادة القرار 1559. وسبق هذا الفصل مقدمة عامة للكتاب في ظل الانتفاضات العربية، وفصل عن ظروف التغيير الدولية والداخلية، وآخر عن المغامرة في ظروفها ومسبباتها وكيف تكونت ظروف التدخل السوري عام 1975، مع الضوء الاخضر الاميركي، وكل سياسة حافظ الاسد في لبنان. اما الفصل الرابع فمتعلق بالعلاقة بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، واللذين كانت لهما تطلعات واحدة.

ولا يفيد في شيء البحث عمـّا إذا كان بشـّار صاحب تطلعات اصلاحية أم لا، وعمـّا إذا كان راغباً في ذلك وغير قادر عليه، وإذا كان من يسمون بالحرس القديم هم الذين حالوا دون المضي في عمليات الإصلاح، والتي كان سيندرج فيها حكماً تصحيح العلاقة مع لبنان. أولاً لأن العلم السياسي يقيس السياسة بالنتائج وليس بالنيات، وثانياً لأن أحوال ما حصل في سوريا ابتداءً من آذار 2011، تجاوز كل ذلك. ومن العبث بمكان التفريق بين بشـّار الأسد ونظام حكمه، كما حاول هو نفسه ان يصور ذلك في مقابلته الشهيرة مع الإعلامية الأميركية باربرا والترز على محطة الـ ABC الأميركية بتاريخ 7 كانون الأول 2011، عندما تبرأ من مسؤوليته إزاء أعمال القتل التي قامت بها قواته، وعندما قال إنّه “ما من حاكم في العالم يقتل شعبه إلا إذا كان مجنوناً…”.

ورث بشار لبنان، لا بعقلية حافظ الأسد، بل بعقليته هو. فاختصر ذلك الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بالوصف التالي:

“قبل وفاة حافظ الأسد بوقت قصير في شهر حزيران 2000 والذي كنت أقيم معه علاقات جيدة بالنظر الى وزن سوريا في المنطقة ونفوذها في لبنان قال لي: “اعتبر بشـّار مثل ابنك، وعامله على هذا الأساس”. وعندما قام بشـّار بزيارة لباريس في السنة التالية اسّر إليّ: “انك تعلم ان والدي كان يعتبر أن عليّ أن أكون مثل ابنك بعد غيابه، واني أتمنى بالتالي ان تكون لنا علاقة من هذا النوع. ولكن الإستعدادات الحسنة هذه لم تدم طويلاً”. وتابع جاك شيراك في سرد علاقاته ببشـّار الأسد: “تبين لي بسرعة اني لم أجد قرب بشـّار الأسد نوعية العلاقات التي كنت اقيمها مع والده منذ لقائنا في دمشق عام 1996، والتي تأكدت منها بعد سنتين من ذلك عندما استقبلته في باريس. فحافظ الأسد، إذ كان قاسياً وعنيداً وغير قابل للإمساك به، إلا أني كنت أجد فيه رجلاً يحترم كلمته ومحاوراً مخلصاً في الحوار مع فرنسا […] وهو أدرك ان فرنسا وقفت الى جانب الذين يبحثون عن سلام عادل ودائم. وهذا لا يمكنه ان يتحقق إلا إذا التزمت الأطراف بشروط دقيقة كنت اذ كر بها حافظ الأسد كما السلطات الإسرائيلية عندما تتوافر لي الظروف. إذ لا يمكن ان يكون هنالك من تسوية سلمية إلا بمبادلة الأرض بالسلام، وهو يجب ان يطبق في الجولان السورية والأراضي الفلسطينية، ولبنان الذي يجب ان يستعيد استقلاله وسيادته […] فلبنان الذي تولي فرنسا مصيره عناية خاصة، تنتظر في الوقت ذاته من كل من سوريا وإسرائيل الإحترام نفسه لسيادة أراضيه، وان على كل منهما وقف احتلالها إياها. وبالمختصر فإن انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني يجب ان يترافق مع انتهاء الوصاية السورية المفروضة على سائر الأراضي منذ 1989 وفق اتفاق الطائف”.

وتابع شيراك يقول: “ان حافظ الأسد الذي لا يجهل هذا المطلب، حرص، بأسلوب ماهر على ان يستمزجني في “تعيين” الرئيس اللبناني الجديد، وطلب مني ان ازوّده خمسة أسماء يختار من بينها واحداً. وأدرجت بينها اسم الجنرال إميل لحود الذي كانت له في وقتها سمعة جيدة، والذي فرضته دمشق بالنتيجة، قبل ان يتبين سوء هذا الإقتراح، لأن إميل لحود، بشخصية دون الوسط، تفتقر الى الرؤية والكاريسما، لم يكن له من همّ إلا البقاء في السلطة بشكل يؤمن استمرار الوجود السوري الذي لم يعد يحتمله الشعب”.

قصة ولادة القرار 1559… كما رواها جاك شيراك

وبعدما ذكـّر شيراك بأنه كان رئيس الدولة الغربي الوحيد الذي حضر الى دمشق للمشاركة في جنازة حافظ الأسد، قال ان القرار ذاك اتخذه اعتباراً من حرصه في الحفاظ على تفاهم مع سوريا بما يخدم قضية السلام في الشرق الأوسط، وكذلك تحرر لبنان.

وعندما حاولت فرنسا بعد ذلك، وابتداءً من عام 2001 حثَّ دمشق على انتهاج سياسة جديدة مع لبنان، وبخاصة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، تبين للرئيس شيراك ان بشـّار الأسد، بدل ان ينتهج سياسة متساهلة، عمد الى إحكام القبضة على لبنان، بعدما ظهر ان فريقه وهو شخصياً يستفيدان منه في كل النواحي، مستغلين لمصلحتهما فوائد احتلال سياسي واقتصادي. فلم يبقَ إذذاك شيء من أمل الإنفتاح والتجدد اللذين أثارهما عند وصوله، واللذين جعلاه يبدو كرئيس دولة شاب تقدمي. فانغلق على نظام سلطة تحوط به دائرة عائلية وطائفية، “وحينذاك بدا ذلك “الابن” المفترض، الذي تخوف حافظ الأسد على الأرجح من عدم كفاياته وضعف شخصيته، فطلب مني ارشاد خطواته الأولى واحاطته بالنصائح، انه لا يستمع إلا إلى آراء الذين لا يعارضون خططه، أو لا يحاولون ثنيه عن منطق الإستبداد والسيطرة، والذي قطع كل أمل بتطور النظام السوري”.

في ذلك الفصل من مذكرات جاك شيراك التي نشرها بعد ست سنوات من استشهاد صديقه الرئيس رفيق الحريري، يروي الرئيس الفرنسي السابق تفاصيل مهمة عن تلك المرحلة، وبخاصة عن القرار 1559، وعن التحقيق الدولي في جريمة استشهاد الرئيس الحريري.

 ولكن قبل ذلك، لا بدّ من القول ان العلاقة التي نشأت في تضافر ظروف مؤاتية، بين رفيق الحريري وجاك شيراك، قادت الروابط المميزة بين لبنان وفرنسا، الى ترجمات عملية مهمة، نتيجة العلاقة الشخصية المباشرة والمسهـّلة بينهما، وذلك من بداية التسعينات، وقبيل وصول الرئيس رفيق الحريري الى مركز رئاسة مجلس الوزراء. فهي بدأت عندما كان جاك شيراك لا يزال عمدة لمدينة باريس، وزعيماً للحزب الديغولي، وبعد تجارب عديدة له في مراكز السلطة كوزير ابتداءً من العام 1969 مع الجنرال شارل ديغول وكرئيس للحكومة مرتين، وكمرشح لرئاسة الجمهورية  التي لم ينجح في الوصول إليها إلا في المرة الثالثة في أيار 1995.

وعلى مدى عشر سنوات، ما بين 1995 و 2005، توطدت العلاقة بين الرجلين على المستويات السياسية والشخصية وحتى العائلية، بما انعكس ايجابياً على صعيد العلاقة الثنائية بين البلدين في مجالات التعاون المختلفة، وفي دعم لبنان إثر إعتداء 1996 الإسرائيلي، وفي مؤتمري باريس 1 وبخاصة باريس 2 قبل ان ينعقد المؤتمر الثالث في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس شيراك.

ولكن لبنان لم يكن وحده المستفيد من ذلك بل استفادت أيضاً سوريا، التي تصرف الرئيس رفيق الحريري أحياناً كثيرة كأنه وزير خارجية لها، عندما فتحت امامها الأبواب الأوروبية بفضل مساهمة كبيرة منه، لأنه كان يعتقد انه كلما تسهلت علاقات سوريا مع الغرب، ومع أوروبا تحديداً، فإن ذلك سينعكس إيجاباً على لبنان. إذ بفضل علاقة الحريري – شيراك، ونفوذ شيراك الأوروبي، تم التعاطي مع سوريا من زاوية مفهوم إيجابي للعلاقة معها، ان على صعيد الإتحاد الأوروبي أو في العلاقات الثنائية. وهذا ما كان يدركه حافظ الأسد، خلافاً لما جرى بعد ذلك وبخاصة إثر صدور القرار 1559، وبداية ظهور نقمة خاصة على باريس – وواشنطن – عبـّر عنها يومذاك عدد من “حلفاء” سوريا في لبنان عندما صرح بعضهم، في خريف عام 2004، “إما دمشق، وإما باريس وواشنطن”، في سياق أجواء ذلك الإنغلاق الثقيل على السياسة الخارجية اللبنانية، والتي أرادها هؤلاء منفتحة على دمشق وحدها، فتم أسر السياسة الخارجية ووزراء الخارجية، في منطق تلك الوصاية، لسنوات غير قصيرة.

وعندما تولى الرئيس رفيق الحريري رئاسة مجلس الوزراء مجدداً إثر انتخابات عام 2000 بعدما بلغت الحملات عليه، وعبر تلفزيون لبنان الرسمي بالذات، حداً غير مسبوق، كانت معاناته الشخصية ومن خلال الممارسات السورية في لبنان قد وصلت الى درجة لا تحتمل. وكان معاونوه والمقربون منه يدركون مداها، وهو يلمس  يومياً الممارسات السورية في لبنان، والتي لم تعد تطاق، في ذلك التصعيد الذي وصل حد الهذيان كما وصفه قبل ذلك، كان لا بدّ من عمل دولي لإنقاذ لبنان، اعتماداً على صداقات لبنان الدولية، والتي كان الرئيس رفيق الحريري عرفها ودعمها من خلال زياراته الى مختلف انحاء العالم، وبخاصة مع الفرنسيين والأميركيين. فكان القرار 1559.

هذا القرار الذي قد تظهر المحكمة الخاصة بلبنان ما إذا كان من المسببات التي أدت الى استشهاد الرئيس رفيق الحريري أم لا، ترددت في شأنه روايات كثيرة. ولكن الأكيد في ذلك أن المسؤولين الدوليين الكبيرين اللذين كانا وراء الدفع الى إقراره هما جاك شيراك وجورج بوش الإبن. وقد شهد بذلك كل من جاك شيراك وكوندوليزا رايس عبر مذكراتهما.

يروي جاك شيراك قصة ذلك القرار في مذكراته فيقول:

“في مطلع سنة 2004، بدأنا رفيق الحريري وأنا ننظر في احتمال عرض الموضوع على مجلس الأمن الدولي بغية الحصول على قرار يفرض على سوريا سحب قواتها من لبنان. بعدما تبين انه لم يعد هنالك من حل آخر. ولكن الوصول الى هذا القرار لم يكن متيسراً إلا في إطار تعاون وثيق مع الولايات المتحدة. وإذا كنا على عدم وفاق حول المسائل المستعملة لحل المشكلة العراقية، إلا إننا بالمقابل، كنا نتشارك في التطلعات إياها في ان تحل الديموقراطية في بلدان الشرق الأوسط، والإلتزام بمبادئ الشرعية الدولية التي يتجاهلها البعض، وفي طليعتهم سوريا”.

ويتابع شيراك:

“ان التقارب الذي بدأ يتحقق بين باريس وواشنطن ابتداءً من ربيع 2004، بغية معالجة الخلاف الذي نشأ بيننا موقتاً بسبب العراق، شجعني على استشراف إمكانية اتفاق حقيقية حول لبنان، كما حول إيران”.

و”بتاريخ 5 حزيران (2004) خلال زيارة الرئيس جورج بوش الى فرنسا بمناسبة احتفالات الذكرى الستين للإنزال في النورماندي، كانت مناسبة، اثناء العشاء الرسمي الذي اقيم على شرفه في الإليزيه، لأن أفتح معه موضوع لبنان في سياق موضوع “الشرق الأوسط الكبير”، (الذي كانت لشيراك إزاءه تحفظات)، والذي لم يكن مدرجاً في المباحثات المعدّة بين فريقينا الدبلوماسيين. فقلت له: “في الشرق الأوسط ديموقراطيتان، إحداهما قوية وهي إسرائيل، والثانية ضعيفة وهي لبنان. فيجب مساعدته”. فبدا جورج بوش متفاجئاً، وعلى معرفة قليلة ببلد لم يظهر تجاهه حتى الآن اهتماماً كبيراً. فشرحت له فائدة دعم الدولة اللبنانية بحيث تستعيد استقلالها إزاء سوريا وإزاء “حزب الله” الذي استعاد كل قوته في الجنوب إثر الإنسحاب الإسرائيلي. قلت له ان انتخابات رئاسية ستجري في لبنان في الخريف، وان ذلك سيكون مناسبة لهذا البلد من أجل انطلاقة جديدة إذا لم يكن الرئيس الجديد، مثل العادة، مفروضاً من دمشق، فالسوريون سيحاولون إعادة انتخاب الرئيس الحالي إميل لحود بعد تعديل الدستور. ولكني لاحظت بكل انتباه تصريحات كل من كولن باول وكوندوليزا رايس حول ضرورة اجراء انتخابات حرة بدون اي تدخل خارجي، وانه بين شروط رفع القيود الأميركية عن سوريا هنالك الإنسحاب من لبنان، فلنعمل على ذلك”.

وتابع شيراك سرد روايته لولادة القرار 1559: “وافق الرئيس بوش على الفور، واقترح أن يبدأ كوندوليزا رايس ومستشاري “غوردو – مونتانيه Gourdaut-Montagne العمل في أسرع وقت ممكن في سبيل الإتفاق على السلوك الذي يجب اتباعه”.

وذكر الرئيس شيراك أنّه خلال صيف 2004، عندما كان مستشاره المذكور أعلاه ومندوب فرنسا في الأمم المتحدة جان – مارك دو لا سابليير Jean-Marc de la Sablière يعملان مع زملائهما الأميركيين على مشروع القرار الذي يوجب اجراء انتخابات حرة والإنسحاب غير المشروط للجيش السوري، إذا بردّ الفعل الذي قال شيراك انه توقعه مع رفيق الحريري يحدث في بيروت، حين تفاهم بشـّار الأسد مع “صنيعته” إميل لحود على تعديل الدستور. وعندما أبدى رئيس الحكومة رفيق الحريري إستياءه من هذه العملية، إستـُدعي الى دمشق بتاريخ 26 آب، بعد أيام قليلة من إستقباله لموريس غوردو- مونتانييه، من أجل قراءة أخيرة لمشروع القرار.

… والتصويت عليه

وهنا روى جاك شيراك الحادثة المعروفة والتي تمّ تداولها بشكل واسع منذ تاريخ ذلك اللقاء وعمّا دار فيه والكلام التهديدي العنيف الذي صدر عن بشـّار الأسد مباشرة للرئيس رفيق الحريري ولعائلته ولوليد جنبلاط … ولجاك شيراك أيضاً. جرى ذلك الحديث بحضور نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام، الذي أكّد في كانون الأول 2005 مضمون حديث ذلك اللقاء أمام لجنة التحقيق الدولية.

وأضاف شيراك في معرض سرده لمجريات تلك الأحداث المثيرة، والتي تبين في ما بعد أنها كانت مصيرية، إنه عندما اطلع مساء اليوم نفسه من الرئيس رفيق الحريري على ما دار في اللقاء، بادر إلى الطلب إليه اتخاذ أقصى درجات التنبه لأمنه وتغيير مسارات تحركاته وحتى عدم الخروج من مكتبه، والتفكير حتى بالإبتعاد عن لبنان، وفي الوقت ذاته اتفق معه على ضرورة تسريع مشروع قرار مجلس الأمن. فاستمرت الإتصالات الفرنسية – الأميركية قائمة، بالرغم من انشغال الرئيس جورج بوش ومعاونيه بالحملة الإنتخابية للولاية الثانية. ولجأ جاك شيراك الى صديقيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصيني هيو جينتاو، اللذين كانت تربطه بهما علاقات ممتازة، في سبيل عدم استعمال بلديهما حق الفيتو في مجلس الأمن. وهكذا في  2 أيلول 2004 وافق المجلس على القرار بأكثرية تسعة أصوات مقابل امتناع ستة، بينها الصين وروسيا والجزائر. وفرض القرار انسحاب القوات السورية وحل جميع الميليشيات العاملة على الأراضي اللبنانية، وإجراء انتخابات رئاسية وفق الأحكام الدستورية اللبنانية، بعيداً عن أي تدخل خارجي.

وفي اليوم التالي كما يتابع شيراك، أقدم بشـّار الأسد، بعد محاولات حتى اللحظة الأخيرة، وعبر الحكومة الإسبانية للحؤول دون ذلك التصويت، على عدم اعتبار القرار، وفرض التمديد لإميل لحود. وانصب غضبه على رفيق الحريري الذي اعتبره المحرض الأساسي على المؤامرة المدبرة بينه وبين فرنسا التي اعتبر انها خانته فبدأت الإغتيالات في بيروت، وفي 21 تشرين الأول استقال رفيق الحريري ليتزعم المعارضة. وفي الوقت نفسه قرر شيراك إرسال أحد الأشخاص الذين يثق بهم وهو برنار ايمييه، كسفير في بيروت.

وفي وصف دقيق من ثمّ، يروي جاك شيراك تفاصيل المرحلة اللاحقة، ابتداءً من مطلع تشرين الأول حتى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، يقول: “كان بشـّار الأسد، بالرغم من ايعازات الأمم المتحدة، مصمماً على ابقاء الضغط التهديدي على لبنان. ففي مطلع سنة 2005، خصّ الدبلوماسي النروجي تيري رود لارسن المكلف متابعة الإشراف على تنفيذ القرار 1559 باستقبال شتائمي. وعندما استقبلت كوندوليزا رايس في 8 شباط 2005، أعربت لها عن قلقي إزاء سياسة الحد الأقصى التي يمارسها النظام السوري الذي أظهر انه مستعد لكل شيء مقابل ألا ّ يتغير شيء في لبنان، بما في ذلك الدعم المادي للمنظمات الإرهابية لزعزعة هذا البلد نهائياً. وأضفت قائلاً لها: “لا يمكننا ان نسمح بخنق الديموقراطية اللبنانية، ولذا يجب تهديد سوريا بعقوبات مالية جديدة، وهي الوسيلة الوحيدة للنيل من ذلك الفساد الذي اقيم بين دمشق وبيروت. يجب علينا فرض تطبيق القرار 1559، فالمتشددون السوريون سوف يضعفون إذذاك، وليس لنا أي مصلحة بأن نرى هلالاً شيعياً بين إيران وحزب الله مروراً بالعراق وسوريا. فأبدت وزيرة الخارجية الأميركية موافقتها التامة على تطبيق الإجراءَات التي اقترحتها. ولكن مأساة لم تكن في الحسبان بالرغم من توقعها حدثت لتغير مجرى التاريخ اللبناني”.

وروى الرئيس الفرنسي السابق بعد ذلك كيف تلقى نبأ اغتيال صديقه رفيق الحريري ظهر يوم 14 شباط 2005، حين كان يرأس اجتماعاً في قصر الإليزيه، فوصف الاغتيال ذاك بأنه “من أسوأ صدمات حياتي، إذ شعرت بأن اغتيال رفيق الحريري كأنه لشقيق لي، لشقيق كان مصيره يقلقني منذ أشهر عدة، والذي حاولت جاهداً ان انبهه مرات عدة للتهديدات التي كانت تستهدفه […] وآخر مرة التقيته في باريس قبل اسبوعين من اغتياله قلت له: كن حذراً، انهم مجرمون قادرون على كل شيء”.

وانتقل فوراً بعد ذلك هو وزوجته برناديت الى منزل الرئيس رفيق الحريري الباريسي، ثمّ أصرّ على المجيء الى بيروت حيث أدلى بتصريح ٍ شهير، ذكر فيه من بين ما ذكر في الإدانة الشديدة للجريمة الرهيبة، أن كل الضوء لا بدّ ان يلقى على ظروفها. وحمّل المسؤوليات بدون مواربة. ثمّ ذكر ماذا دار من حديث حول الجريمة مع الرئيس بوش في بروكسل في 25 شباط 2005، واتفاقهما على تحديد المسؤوليات، وبأنه بعد شهر من ذلك انسحب الجيش السوري، وأعلن مجلس الأمن الدولي إنشاء لجنة تحقيق دولية. والتطورات اللاحقة لذلك معروفة.

“باريس وواشنطن حليفان موضوعيان ضدّ سوريا”

وهكذا فإن الدور الفرنسي في اتخاذ القرار 1559، ثم في التعاطي الدولي مع الجريمة، والذي بقي شيراك ساهراً على مساره حتى انتهاء ولايته في أيار 2007، كان واضحاً وقوياً.

رواية الرئيس جاك شيراك تتطابق تماماً مع ما كتبته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في مذاكراتها بأنه خلال زيارة الرئيس بوش الى باريس عام 2003 (والحقيقة ان ذلك حصل عام 2004، لأن رايس روت ظروف ولادة القرار بدون الدقة التاريخية التي رواها فيها شيراك ولكن مع تلاقي مضمون الروايتين). قالت:

“الرئيس شيراك تحدى الرئيس بوش خلال تلك الزيارة قائلاً له إنه يتحدث دائماً عن الديموقراطية في الشرق الأوسط، فلماذا لا نفعل شيئاً في ما يتعلق بالديموقراطية في لبنان، الذي كانت له نسبياً مؤسسات سياسية حرة، فعلينا تخليصها من سوريا. وأثار هذا الكلام فضول الرئيس بوش، فبدأنا أنا ومستشار الرئيس شيراك موريس غوردو مونتانيه بوضع استراتيجية، فركزنا على صدور قرار لمجلس الأمن الدولي يطلب انسحاب القوات السورية، محذرين دمشق من التدخل في الشؤون اللبنانية […] وخلال تلك الليلة، والتي سمي فيها الرئيس بوش مرشحاً للحزب الجمهوري لولاية ثانية، كان هنالك تسعة اصوات مؤيدة بينما امتنع ستة عن التصويت، ولم يصوت أحد ضدّ القرار. وفي الواقع تحدثت اثناء الليل، في الثالثة فجراً مع وزير خارجية الفيليبين لأسمع منه الموافقة النهائية على التصويت”.

وأضافت كوندوليزا رايس تقول: “لم يبد يومذاك ان القرار عنى الكثير. وفي الواقع ان دمشق سخرت منه معتبرة ان على الأمم المتحدة ان تتعاطى بشؤونها…”.

حصل ذلك التعاون الأميركي–الفرنسي حول لبنان، في وقت كانت أوروبا كلها تقريباً، في وضع مناهض للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وبخاصة بعد ذلك الموقف الكبير للرئيس الفرنسي جاك شيراك بمعارضة حرب العراق، وعبر الخطاب التاريخي لوزير خارجيته دومنيك دو فيلبان في مجلس الأمن الدولي بتاريخ 14 شباط 2003 الذي قوبل بالتصفيق، وهو امر نادر الحصول في مجلس الأمن الدولي. وهكذا ذكرت جريدة لوموند  في عددها الصادر بتاريخ 31 تشرين الثاني 2004 وتحت عنوان “باريس وواشنطن حليفان موضوعيان ضدّ سوريا” أن إدارة بوش هذه هي أكثر الإدارات تعرضاً للمهانة في التاريخ ! وذلك في معرض تساؤل الكاتب، باتريس كلود، عن الخلفيات التي حملت فرنسا، الدولة الغربية الكبرى الأكثر تصميماً، على معارضة الحرب الوقائية ضد العراق، على الإتفاق مع تلك الإدارة في موضوع لبنان وسوريا”.

وما يجدر ذكره في هذا المجال، ان السياسة الفرنسية تجاه لبنان، قبل عام 2004 واتفاق شيراك – بوش بشأن لبنان، لم تكن سياسة فئوية، فجاك شيراك لم يكن يتكلم مع فريق لبناني دون غيره. فالتواصل مع الجميع هو الإرث الأبرز للسياسة الديغولية ليس فقط في لبنان بل في المنطقة العربية. وإذا كان شيراك قد نظر الى بشـّار الأسد تلك النظرة التي سبقت الإشارة إليها، فهو اقام علاقة مع نظام والده ومعه هو أيضاً. فسوريا بشـّار غضبت كثيراً بعد صدور القرار 1559، وكتب المحقق الدولي سرج برامرتس في تقريره عام 2007 “ان الدور الذي يمكن ان يكون أداه رفيق الحريري وقادة سياسيون لبنانيون ودوليون في اعتماد هذا القرار […] يحمل الفرضية التي تعمل عليها اللجنة وهي ان من المحتمل ان تكون هذه الأحداث قد أدت دوراً مهماً في تجهيز البيئة التي قادت الى ان تكوّن الدوافع لإغتيال الحريري”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى