صفحات الرأي

دراسة تحليلية للبنية التشريعية والدستورية القائمة في سورية


المحامي مهند الحسني

مَرَّ التشريع السوري بمرحلتين رئيسيتين فصلت بينهما مرحلة انتقالية قصيرة الأمد ألا وهي الحقبة الناصرية التي اتسمت بتسلل التشريعات الاشتراكية كقوانين التأميم والإصلاح الزراعي وغيرها. وقد جاءت المرحلة الأولى في أعقاب الاستقلال، وتأثَّر المُشرِّع فيها برياح التغيير التي اجتاحت أوروبا وحملها معه المذهب الحر الليبرالي في السياسة والاقتصاد والتي اعتبر بموجبها أن الدولة ما هي إلا جهاز اجتماعي وإنساني وُجِد لحماية الأفراد وضمان حرياتهم في إطار من ضرورات العيش المشترك. وبموجب هذا المذهب فإن للدولة شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية الحكام الذين يتبدلون ويتغيرون تبعاً للظروف في حين أن الدولة باقية تعبيراً عن الأمة بأسرها.

وكانت مهمة التشريع في هذه المرحلة سنُّ قوانين تحمي المصالح العليا المشتركة لجميع أبناء الوطن لا الذود عن مصالح فئوية ضيقة لطبقة من الحكام وفي هذه المرحلة ظهرت معظم القوانين والتشريعات الوضعية سواءً تلك التي نظمت البنية التحتية كقانون الأحوال المدنية “النفوس” أو العقارية “الطابو” أو قوانين إعمار المدن أو السجون وغيرها. وكذلك القوانين الوضعية الحالية كالقانون المدني والعقوبات والبينات وأصول المحكمات الجزائية والمدنية وغيرها. وفي هذه المرحلة أيضاً عرفت سورية أعلام الفكر القانوني الذين نهلوا المبادئ الدستورية والقانونية من أهم مراكز التنوير في جامعات الغرب مثل عدنان العجلاني ومعروف الدواليبي وفارس الخوري ومصطفى السباعي وغيرهم الكثير. وكانوا رواد مرحلة تأسيس الدولة السورية ومن تحت عباءاتهم خرجت أجيال ذادت عن الحق والقانون في مراحل لاحقة في مواجهة طغيان العسكر.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة العسكر الذين جاؤوا للحكم عقب الثامن من آذار لعام 1963 وأحضروا معهم حالة الطوارئ التي استمرت زهاء نصف قرن وأرست بظلالها القاتمة على مختلف مناحي الحياة في سورية، وهم الذين مهَّدوا البُنية التحتية القانونية والتشريعية والدستورية لظهور الديكتاتورية في سورية من خلال ترسانة من القوانين المكبلة للحريات كان من بينها المرسوم 6 لعام 1964، والذي يعاقب بعقوبة قد تصل إلى إعدام كل من يُناهض أهداف ثورة الثامن من آذار. ثم تمّ تعديل قانون السلطة القضائية بالمرسوم 24 لعام 1966، والذي بموجبه تغيَّرت تركيبة مجلس القضاء الأعلى فأصبح برئاسة رئيس الجمهورية وينوب عنه وزير العدل “عضو السلطة التنفيذية” وعضوية ستة أعضاء ثلاثة منهم يتبعون وزير العدل إدارياً -هم الأمين العام لوزارة العدل والنائب العام بالجمهورية ورئيس إدارة التفتيش القضائي- في مقابل ثلاثة مناصب قضائية، وبالتالي أسست أغلبية مريحة لوزير العدل في المجلس الذي يتحكم بكل الشؤون الحياتية واليومية للقضاة وهو ما أطاح بمبدأ استقلالية القضاء كسلطة مستقلة.

وتفاقمت الأمور بإنشاء المحاكم الشاذة والاستثنائية بالمرسومين 47 لعام 1968 والمتضمن إنشاء محكمة أمن الدولة العليا. وكذلك المرسوم 109 لعام 1968 المتضمن إنشاء المحاكم الميدانية العسكرية، وكلاهما له سِجِل رهيب في عالم العدالة.

وكان صدور المرسوم 14 لعام 1969 المتضمن استحداث إدارة المخابرات العامة بمثابة رصاصة الرحمة لمبدأ سيادة القانون لأنه منح العاملين فيها الحصانة من أي ملاحقة قانونية تجاه الجرائم التي يرتكبونها في معرض عملهم إلا بإذن خاص من مدير إدارة المخابرات، وهو ما كرس سياسة الإفلات من العقاب في سورية وشرع المنافذ للخروج عن القانون. أما قوانين العقوبات الاقتصادية واستحداث محاكم شاذة واستثنائية للأمن الاقتصادي فقد كان لها أوخم الأثر في عالم العدالة بموادها المطاطة، والتي تعاقب بعقوبات مغلظة على مجردات ومطلقات، كمقاومة النظام الاشتراكي على سبيل المثال لا الحصر والتي كان لها سجل شائن في عالم العدالة.

كما صدر القانون الخاص بأمن حزب البعث العربي الاشتراكي رقم 52 لعام 1979 والذي عاقب بعقوبة تصل للإعدام عن كل فعل يقصد منه منع حزب البعث من ممارسة مهامه المنصوص عليها بالدستور والقانون. وكذلك وصولاً للقانون 49 لعام 1980، والذي نص على عقوبة الإعدام على مجرد الانتماء الفكري لجماعة الإخوان المسلمين دون اشتراط القيام بأي فعل مادي. وانتهاءً بالقانون الأخير الذي صدر نهاية عام 2011 والذي تصل فيه العقوبة للإعدام على تجارة الأسلحة والذخائر.

وسط هذه الجوقة الهرمونية من القوانين المكبلة للحريات سن الدستور السوري على يد مجلس شعب معين من قبل القيادة القُطْرية لحزب البعث لعام 1971 -1972. صحيح أنه كان قد أجري عليه استفتاء لكن الجميع يعلم نتائج الاستفتاءات في النظم الشمولية والتي تكون محسومة سلفاً بنسبة 99,99%. وبموجب الدستور الحالي تركزت السلطات جميعها بيد رئيس الجمهورية فهو يتمتع بصلاحيات تشريعية كاملة، حيث يتولى سلطة التشريع كاملة سواءً أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب أو خارج انعقاد دورات مجلس الشعب، أو حتى في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين. كما يملك الحق بالاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب، ويملك الحق بإعداد مشاريع القوانين وإحالتها إلى مجلس الشعب، ويملك حل مجلس الشعب كلياً، ويملك أيضاً إلغاء أي تعديل للدستور يمكن أن يقره مجلس الشعب بأكثرية 3/4. والطريف هنا أننا نتحدث عن مجلس شعب ذو أغلبية بعثية يشغل رئيس الجمهورية منصب الأمين العام في سدته ومسيطر عليه أمنياً بمفاعيل قوانين ناظمة وقائمة. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الصلاحيات التشريعية المطلقة للهيمنة على السلطة التشريعية من قبل السلطة التنفيذية ممثلة برئيسها ألا وهو رئيس الجمهورية.

من جهة ثانية، فإنه بموجب الدستور السوري يكون رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي يتولى كل ما له علاقة بالأمور الحياتية والمعاشية للقضاة “من ترفيعات إلى تنقلات إلى عقوبات إلى مكافأت إلى عزل” كما سلف وبيَّنا، وينوب عنه في رئاسة المجلس وزير العدل “عضو السلطة التنفيذية”. فهو الآمر الناهي في مجلس القضاء الأعلى وصاحب القرار المضمون داخل المجلس، وبالتالي هيمنة كاملة للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية. وهذا طبعاً إضافة لرئاسة السلطة التنفيذية وتحديد السياسات العامة للدولة والحكومة وتعيين نواب الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء ونواب الوزراء وممارسة السلطة التنفيذية كاملة. وهذا طبعاً عدا أنه القائد العام للجيش والقوات المسلحة وأيضاً الأمين القطري لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع بموجب الدستور.

والحقيقة أننا لم نسلط الضوء على الواقع التشريعي السوري وترسانة النصوص المكبلة للحريات رغبة منا بالتشهير بالنظام السياسي القائم، أبداً، كما يتوارد لذهن القائمين على الأجهزة الأمنية دائماً. لكن الأمانة العلمية تحتم علينا الصدق مع الذات ومع الآخرين ونقل رسالة مفادها أن الإصلاح سواء أكان تشريعياً أم قانونياً أم دستورياً أم جنائياً لا يمكن بناؤه إلا على أساس متين وإلا فسرعان ما سينهار. ومثل هذه البنية الأمنية والتشريعية لا تنتج إلا الاستبداد والفساد ولا يمكن البناء عليها.

إن الإصلاح المنشود لا يأتي على جرعات كما يحاول جميع الطغاة أن يتذرعوا، وهو لا يمكن بناؤه على أنقاض هذه الترسانة من القوانين والتشريعات المكبلة للحريات والتي تخلق المخارج للخارجين المحتملين عن القانون. الإصلاح في سورية بحاجة لتفكيك هذه الترسانة التي سَئِم منها السوريون ودفعوا دماءهم في سبيل الخلاص منها، والتي لا يمكن رتقها ولا ستر عوراتها ما لم يصار لاستبدالها ببُنية عصرية دستورية لا تُقيم حاكماً أبدياً وترسم آفاق دولة حديثة قائمة على حكم القانون لا على عبادة الفرد.

رئيس مجلس إدارة المنظمة السورية لحقوق الإنسان “سواسية”

* مركز التواصل والأبحاث الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى