صفحات العالم

درس الديموقراطية الفرنسية


    بشير مفتي

يُطرح علينا أحياناً التساؤل الغريب: لماذا أعينكم موجهة الى الغرب فترونه الأمثل في تقديم الحلول الناجعة، بدل العودة إلى تراثنا أو النبش في مرجعياتنا التي يوجد فيها الدواء النافع والشفاء العاجل؟ لماذا أنتم مبهورون بالغرب وثقافته وخطابه وأساليبه في الممارسة السياسية وغيرها، ولا تلتفتون إلى ذواتكم وتنظرون فيها لعلكم تجدون حلولا داخلية لمشكلاتكم؟ هذه من الأسئلة المشروعة، إن بقيت أسئلة قابلة للنقاش ولم ترتفع الى مستوى الإدانة والاتهام، كما هو الشائع اليوم. فغالبا ما تكون اللهجة المستعملة تعنيفية، والغاية المرجوة الادانة والاتهام. الحق، ان تهمة الغربنة أو التغريب، كما شاعت وأُلصقت بالعديد من المفكرين التنويريين العرب، من طه حسين إلى نصر حامد أبو زيد، ليست جديدة. لقد كانت دائما التسمية التي يُراد بها إلحاق فئة من المثقفين العرب بالغرب واعتبارهم بذلك عملاء ومتآمرين على مصالح شعوبهم وأمتهم.

إن الذين يطرحون هذا النوع من الأسئلة يعرفون بينهم وبين أنفسهم أن المشكل لم يكن في العودة إلى التراث أو النهل من مبتكرات الغرب الحديثة. هم يدركون أننا نعيش في عصر زالت فيه حضارة المسلمين من فترة طويلة مثلما زالت حضارات مهمة كثيرة. ولو بقي العالم يعيش بمنطق الحضارات القديمة، لما كانت دولة اليونان في أزمة اليوم، كما ايطاليا ذات التاريخ الامبراطوري، ولا اسبانيا، أو غيرها من الدول ذات الحضارات العريقة في العالم. بل نحن نعيش في دوامة عصر حديث يقول عنه ماركس “كل ما هو صلب فيه يتحول إلى أثير”. الغرب الذي فرض هيمنته بالفعل في مجالات شتى، يطرح علينا جميعا هذا التحدي الحضاري الكبير، الذي يفتح لنا النظر الى أنفسنا برؤية نقدية تُخرجنا من مركزية “النحن”، وتجعلنا نراها رؤية واضحة سليمة، بإمكاناتها وحدودها، بنقائصها وقدراتها، بسلبياتها وايجابياتها، أي كوضعية طبيعية منخرطة في الشرط الإنساني، فلا تعلو عليه ولا تنظر الى نفسها باعتبارها “نحن” ثابتة بقيم مطلقة خارجة عن كل زمان ومكان.

عندما تتموقع هذه “النحن” وتنخرط في رؤية نقدية لنفسها، يمكنها أن تنظر الى الآخر كرافد من روافد معرفتها بذاتها، وليس فقط كعدو مطلق يقوم وجوده على معاداتها والتآمر عليها. آنذاك يتوقف النظر الى المثقف العربي الذي يريد أن يفتح نوافذ جديدة للرؤية، باعتباره عميلاً للأجنبي أو مساعداً في التآمر على الأمة والشعب، وهذا لا يمنع كذلك من نقد النظرة “الانبهارية ” الى الغرب التي لن تجد من يشفع لها عندما تفقد صواب النسبية وتقع في بؤس الإطلاقية، فترى في الغرب ذلك السحر الذي يفقدها كل نزاهة في التطرق الى سلبياته.

يبقى الدرس الذي يمكن تعلمه من الغرب، الأورو – أميركي المتقدم، فقد حقق لنفسه مكانة الريادة في عالم اليوم بسبب نظامه السياسي الذي يشكل الرؤية الأكثر موضوعية ونزاهة للفعل السياسي. لعلنا لا نبالغ، فالوقائع تثبت بالكثير من الأمثلة الدالة على ما نقول. شاهد أكثر من ثمانية عشر مليون شخص المناظرة التي جمعت مرشح اليسار الفرنسي فرنسوا هولاند مع الرئيس المنتهية عهدته نيكولا ساركوزي، وأظن أن من بين هذا العدد الكبير نسبة لا بأس بها من مواطني البلدان المغاربية التي تتفاعل مع ما يحدث في فرنسا، وخصوصاً من الجزائر حيث يوجد ما يقرب مليونين من مزدوجي الجنسية، إلى جانب العدد الهائل من المهاجرين الذين يدرسون أو يعملون هناك.

تميز النقاش بين المتنافسين بجدية كبيرة ونضج عميق، والأهم أن تلك المناظرة الديموقراطية سمحت لكل طرف بطرح مشروعه وإظهار تحكمه في الملفات التي يناقشها، وراحت الحجة تقارع الحجة والفكرة تصارع الفكرة، والرؤية تتضح مع تطور النقاش في ابراز الكفاءة والمقدرة العالية، ليس في الحوار فحسب ولكن في تبين شخصية هذا الذي سيحكم فرنسا مستقبلاً.

ثم جاء موعد الانتخابات الرئاسية وتمكن مرشح اليسار من الفوز على خصمه اليميني الذي مُني بالهزيمة وأقر بالفشل معتبراً أنه يتحمل مسؤوليته وحده، وهنأ خصمه على الفوز بكل روح جمهورية مسؤولة، انطلاقا من أن الفائز الأول هو الديموقراطية الفرنسية.

عندما نتحدث عن الغرب، ننظر اليه في علاقته بنا وليس في علاقته بنفسه، وهذا ما يجعلنا دائما نعمي أبصارنا عن حقيقته التي يتعاطاها بداخله وبطريقة تثير فينا حتما الشعور بالغيرة والانبهار.

لا يوجد في العلاقات الدولية ما يمكن تسميته بالشفقة لأن الأمر ليس له علاقة بالأخلاق ولكن بالمصلحة. لذا، فإن الغرب يدافع في علاقته معنا، عن مصالحه التي قد تتعارض مع مصالحنا، وهذا ما يجب أن نفعله نحن ايضاً، فنعرف كيف ندافع عن مصلحتنا الأساسية معه ومع أنفسنا.

الدرس الديموقراطي الذي أتاحته لنا الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو هذا بالضبط: كيف نتعلم تطبيق الديموقراطية بروح ديموقراطية تجعل الحكم وسيلة لنقل صوت الناس إلى أعلى هرم السلطة؟ كيف نجعل من الديموقراطية عرسا حقيقيا وليس واجهة؟ كيف تكون الثقافة الديموقراطية هي مصدر البناء لمجتمع يتحاور ويتناقش بالحجج والأدلة والإقناع وليس بالعنف والإكراه والسيطرة؟ هذا الغرب نحبه لأنه يدلنا إلى الطريق، أحبّ من أحب، وكره من كره.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى