درس لمن لا يفهم!
ميشيل كيلو
ليس هناك ما هو أخطر على أمن وسلامة دولة ومجتمع من غربة قادتهما بعيدا عن الواقع، ومن عيش هؤلاء في عالم وهمي تصنعه ذات تلغي كل ما عداها، تؤمن بأن إرادتها تقرر أي شيء وكل شيء. وليس هناك من مثال يظهر خطورة هذه الغربة عن الواقع، وهذا العيش في الذات المريضة، أكثر من شخص معمر القذافي، الرجل الذي قرر بأسلوب مفعم بالنزوات والهوى مصير بلاده خلال نيف وأربعين عاما، لكنه أصر طيلة هذا الوقت على أنه ليس رجل سلطة أو سياسة، بل هو «ثائر من البادية، من الخيمة»، كما قال في واحدة من خطبه الأخيرة، عندما طالبه قطاع واسع من الليبيين والعرب والعالم بالتنحي، فرد بأنه لو كان رجل سلطة، لكان رمى الاستقالة في وجه الشعب. هل فات الرجل أنه أمسك منفردا بأقدار بلاده، وتصرف منفردا بثرواتها، وشرع قوانينها بمفرده من «وثيقة حقوق الإنسان الخضراء الكبرى»، التي تعطي في بندها السادس المواطن الليبي الحق في اختيار شريكة حياته، إذا كان ذلك لا يتعارض مع المصلحة العامة، إلى قرار «تجييف» خصومه ومعارضيه، أي قتلهم ورميهم في الصحراء، حيث يتحولوا إلى جيف وتأكلهم الوحوش والضواري، دون أن يكون لأهلهم وذويهم حق دفنهم أو السؤال عنهم، إلى التلاعب منفردا بالقيم والأهداف التي أعلن قدسيتها أول الثورة: من الوحدة العربية، إلى الحرية، إلى العدالة، إلى سلطة الشعب؟
لكن القذافي ما لبث أن تخلى عن كل هدف أعلنه، وتلاعب بالقيم التي خاصم الشرق والغرب بسببها، وحولها إلى أدوات شقاق وانقسام داخلي وقومي، ولم يتمسك بغير فكرة واحدة من بنات أوهامه هي أن السلطة صارت لشعب ليبيا، وأنه ليس مسؤولا أو رجل سلطة، بل هو قائد ثورة وموجه تاريخ. وبما أن السلطة للشعب، فإن النظام لا يجوز أن يقوم على الإنابة أو التوكيل أو التمثيل أو التفويض، ما دام كل تمثيل تدجيلا، والحرية لا تستناب، ولأن التمثيل تشويه للديمقراطية المباشرة، فإن البرلمان مؤسسة تزور إرادة الشعب بدل أن تعبر عنها، واللجان الشعبية وحدها تمثله، لأنها غير منتخبة وإنما تضم جميع بناته وأبنائه على الطريقة اليونانية المباشرة، فهي تجسيد لوحدته المطلقة، التي تجعل أي انقسام في صفوفه، متعمدا كان أم عفويا، جريمة يعاقب عليها القانون، وتبطل الحاجة إلى الحزبية: أعلى أشكال الانقسام المجتمعي والوطني خطورة، التي يجب أن تعتبر خيانة، كما كانت تقول يافطة تزين واجهة مطار طرابلس الدولي، تذكر زوارها بأن «من تحزب خان».
لم يلاحظ الرجل أن إلغاء الشأن العام، سياسيا كان أم غير سياسي، وإعلان عصر الجماهير الذي سميت ليبيا جماهيرية تيمنا بقيامه فيها قبل جميع دول العالم، وخاصة الجمهورية منها، يعني أن كل ليبي صار حامل سلطة تضطهده وتحتقره وتنهبه وتصادر حريته، وأنه ملزم باعتبارها نمط التجسيد الوحيد لوجوده، وأن من واجبه الدفاع عنها، أي عن عبوديته الشخصية في ظلها، علما بأن الشخص الوحيد الذي يجسد كامل جوانبها في نقائها الصرف هو «الأخ قائد الثورة»، العقيد معمر القذافي، الذي يستطيع التعامل معها بالطريقة التي تحلو له، لكونه تجسيمها المادي والروحي الذي تصدر وتفيض عنه، فهو العقل الأول، الواجب الوجود عند بعض فلاسفة العرب، والجهة التي تنتج النظام وتضمنه وتمسك بدفته، وتنفرد بمعرفة آلياته ومدوناته السرية والعلنية، وكل من عداه لا بد أن يستمد دوره ووجوده منه، أو من الذين يفيض عليهم ببعض صلاحياته: وهؤلاء هم حصرا أبناؤه، حملة صفاته القدسية، لمجرد أنهم من صلبه، في حين يستحق من يحتجون أو يتذمرون من المواطنين صفة الجرذان والمقملين، الذين يجب تطهير ليبيا منهم، بالعنف.
أمام هذا النظام، الذي وحد الدولة والمجتمع والسلطة والمواطن في شخصه، ورفع العنف اليومي المنظم إلى مرتبة مصلحة عليا وحيدة للدولة، وجد الليبيون أنفسهم حيال أحد خيارين: الموت صمتا وقهرا أو تعذيبا وقتلا، وتحولت ليبيا إلى مكان يشبه «مستشفى أمراض عقلية». وقد روى لي صديق ليبي خلال زيارة إلى طرابلس أن الإيطاليين قتلوا ثلاثة أرباع شعب ليبيا، الذي كان يضم قرابة ثلاثة ملايين إنسان عندما غزوها، وأن هذا الحطام البشري الذي خلفوه وراءهم كان بحاجة إلى من يعيد ترميمه وإعادة إحيائه وتجديد وجوده وتنميته ومكافأته بالحرية على صبره وجهاده وتضحياته ودوره التاريخي الكبير، فجاءه القذافي، الذي تفنن في إثارة التناقضات بين مكوناته، وسلبه حقوقه جميعها، بما فيها حقه في الحياة، حتى أنه عرض على الليبيين في خطاب علني وصريح منح كل واحد منهم مبلغا من المال إن هو هاجر إلى خارج ليبيا ولم يعد إليها، وفكر في إصدار قرار يرغمهم على طلاء أجسادهم باللون الأسود، كي يتحولوا إلى أفارقة، بعد أن كان قد ركز جهوده طيلة أعوام على إقناعهم بأنهم سبقوا البشرية جمعاء، ودخلوا إلى عصر لا يوجد إلا عندهم، وجعل من هذا الهراء عقيدة سلطة تقوم على الرقابة والضبط بأوسع معنى أمكن لسلطة قمعية بلوغه في التاريخ الحديث، عقب انفصالها عن الشعب والمجتمع وتحولها إلى أخوية إرهابية لا شغل لها غير إدامة موتهما، مثلما رأى العالم خلال الثورة الحالية ضد النظام، وظهر من سلوك ما عرف بكتائب القذافي ضد المواطنين، الذي لا يمكن تفسيره بغير مقولة السادة والعبيد: السادة في السلطة فوق، الذين يحق لهم القيام بأي شيء، والعبيد في المجتمع تحت، الذين لا يحق لهم أي شيء غير أن يتشرفوا بالموت قتلا على يد سادتهم في الحرب، أو ذلا خلال السلام.
واليوم، ها هو نظام الأوهام والقبضة الحديدية والخروج على القانون والشرائع الإنسانية ينهار كبيت من رمل، بعد أن أذاق شعبه الويل خلال نيف وأربعين عاما، تذكر الليبيون خلالها الحكم الأجنبي واعتبر كثيرون منهم أن سلطة «الأخ قائد الثورة» لم تكن أرحم منه. ربما كان هذا يفسر عودة الليبيين إلى علم الاستقلال ورموز النضال ضد الاحتلال الإيطالي، وحديثهم عن ثورتهم باعتبارها ثورة تحرر وطني: تخلصهم من استعمار داخلي هذه المرة.
هل سيتعظ أشباه القذافي العرب بما انتهى إليه حكمه، أم سيواصلون نهجه الغريب عن الواقع خلال الأشهر القليلة الماضية، الذي بدأ باتهام الشعب بالأصولية، ثم تحدث عن مؤامرة، قبل أن يحاول إقناع العالم بأنه يدافع عنه ضد الإرهاب، وهدد أخيرا بغزو أوروبا ومعاقبتها وسبي نسائها؟ هل يفهم أشباهه عبر هزيمته، أن القوة ليست ردا ملائما على مطالب الشعب العادلة، وأن الدفاع عن السيادة الوطنية لا يكون بقتل الشعب، وأن العنف يفتح جميع الأبواب أمام تدخل الأجانب، مثلما حدث في ليبيا، وسيحدث في أي بلد عربي آخر؟ هل يفهم هؤلاء حقيقة ما جرى، ويتخلون عن مرض العظمة وأوهام ذواتهم المريضة، قبل فوات الأوان؟
الشرق الأوسط