صفحات الثقافة

درس مـن فيلـم عايـدة كنفانـي الزهـار

 

عباس بيضون

منذ الأيام الأولى للانتفاضة تكلم النظام السوري عن التحريض الطائفي. كان في الوضع السوري ما يبرر فرضية الصراع الطائفي. لكن النظام الذي بادر إلى توظيفها كان يفضح نفسه، كان يتهم نفسه ويكشف امام الجميع عقله الطائفي. مع ذلك كان التخوف من تطور الصراع إلى مجابهة طائفية فرضية ممكنة، وبطبيعة الحال بدأ كثيرون، ممن شككوا بنيات النظام الهادفة إلى تلطيخ الانتفاضة بالطائفية، يؤكدون ان الطائفية غير قائمة في سوريا وان المجابهة هي بين شعب وسلطة حاكمة. في العراق لا يزال كثيرون يرون ان الحديث عن الصراع الطائفي مشبوه، ولكثيرين مآرب فيه وبالطبع هناك كلام عن تعايش مئات السنين بين السنة والشيعة في حين لا ينتبه كثيرون إلى هوامش في الصراع السني ـ الشيعي أدت إلى شبه تصفية للمسيحيين الأشوريين واليزيديين الأكراد، شبه تصفية للتنويعة الطائفية العراقية العريقة والتالده. الاعتداء على الطوائف الصغرى والأقليات العرقية قد يكون «البروفا» الأولى للهيمنة الطائفية لكن الأقليات تذوب في غمرة الانشغال بالصراع الرئيسي. لا شك في ان من ينكرون الحزازات الطائفية ومن يتكلمون عن التعايش لا ينطقون عن هوى ولا يزورون الوقائع، انما يفوتهم ان الحزازات الطائفية تبقى عقوداً طويلة في حال كمون وتتماوت فيبدو انها ماتت، لكنها في لحظة غير منتظرة ولا متوقعة تعود لتعسّ وتتوقد. شيء كهذا يتم بسرعة متفاقمة، حاله في ذلك حال الوباء إذا انتشر. كان اللبنانيون قبيل الحرب الأهلية يستبعدونها ويجدون بالتأكيد مئة دليل على التعايش والتعاون والتفاهم بين الطوائف. دليلنا إلى ذلك فيلم صنعته باحثة اجتماعية هي عايدة كنفاني زهار بعنوان «مصالحات ما بعد الحرب». هذا الفيلم يعالج كما يشير عنوانه مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، الحرب الأهلية هنا وقعت فلا سبيل إلى انكار التوتر الأهلي. الحرب الأهلية متجذرة في الذاكرة وصورها بطبيعة الحال ارسخ مما قبلها بل ان الصور التي سبقتها شحبت وتراجعت، ما بقي في ذاكرة الناس هو صور الحرب وصور البيوت التي تهدمت والمعابد التي دمرت والمجازر التي تلاحقت والخطف والقتل والتهجير. ما قبلها أيا كان بات بعيداً وشبحياً كأنه لم يحدث. نرى الشاب الذي يقول انه في العاشرة «خسرت أهلي» ويعرض صورة لوالده قائلاً انه كان في السابعة والثلاثين واستعادوه جثة بلا رأس، هناك صورة الخال الذي قتل وابن الخال الذي خطف ومن حينها «ما بنعرف عنو شي» هناك الأعمال الثأرية والشركاء الذين تحولوا إلى قتلة. ليس القتل وحده هو الذي يحضر، التدمير اقرب عهداً. هكذا نرى عائدات إلى بيت الطفولة يتحسسن ما كان من قبل معالم بيت، ما غدا اطلالاً، انها العودة المؤلمة «بتلاقي الأرض يابسة ما في شي بيدلّ انو فيها حياة، كان أفضل تتذكرها مثل ما كانت، مش متل ما هي هلق» القرى «حزينة ما فيها حجر ولا بشر، اشجار الزيتون اللى عمرها مية سنة» انقلعت، تقول السيدات عن ذلك كله «شي بيعصب، بنحب نجي، وينعصب بس نجي».

رغم ان هذه الصور أكثر تجذراً واقرب عهداً، الا ان صور التعايش التي سبقتها، صور التفاهم القديم القديم والمصالحة القديمة لا تزال، ولو من بعيد، حية في الذاكرة، انها تشحب وتبتعد وتغدو شبحيه وضبابية، مثلها في ذلك مثل الحلم. انها تعود إلى البال من عصر ذهبي، من نعيم قديم، من جنة مفارقة، فمقام السيد عبد الله التنوخي في عبيه، كان يؤمه الدروز والمسيحيون قبل ان يتدمر في الحرب. هناك من يستذكر «كنا نتعاون بالأعياد» ما يعني ان كل طرف كان يشارك في أعياد الطرف الآخر. مسيحي يقول «كانوا الدروز يحملوا موتانا على كتافهم ونحنا كمان. مفش حدا يعرف أيا مسيحي وأيا درزي». درزي يقول كنا كلنا عيلة وحدي. آخر يقول «كنا أهل جيران وقرايب» «ما بتعرف هـ الأحداث شو سببها». آخر يقول في اجتماع ضم أفراداً من الفريقين، «وضعنا أصبعنا على الجرح، عمنرجع اللحمة للبلد اللي فقدها» وفي نفس الاجتماع «عبيه بتمثل نموذج للبنان، البلد تتمثل المفهوم الحضاري للبنان».

نلاحظ اننا في الجمل الأخيرة دخلنا في «الايديولوجيا اللبنانية» كما يسميها فواز طرابلسي فالنموذج اللبناني والمفهوم الحضاري للبنان والرسالة اللبنانية بالتالي في التعايش والتعدد هي خبزنا الذي نعود إليه كلما ركبنا جنون الدم، وكلما رأينا البلد يتفسخ والحزازات تضرى والحدود الدموية المتأرثة ترتسم من جديد، والبيت اللبناني ينقسم إلى منازل متعادية. نجد عزاءنا في مشروع تاريخي ما يزال إلى الآن عصيا على التحقق، وما زالت الوقائع المستجدة تجعله أكثر استعصاء.

قبل الحرب كان هناك ذلك الحلم التاريخي، اما بعد الحرب فإن العائدين والعائدات يأتون ليتحسسوا آثاراً لم تعد لها معالم. تفهم ان الحلم صغر وتضاءل وان هذا الكلام عن النموذج اللبناني وعن المفهوم الحضاري للبنان ليس (إلى الآن) سوى بهورة، ولو تزين بالرصانة النظرية. يبدو اقرب إلينا كلام هذا الشاب الذي خسر أهله في الحرب وأعادوا إليه أباه جثة بدون راس لكنه استعاض عن ذلك بأطفاله. اقرب إلينا كلام السيدة التي تقول ان الذي يسمع «ضحكة طفل صغير ما بيعود يفكر بالحرب. ما بيعود يفكر يقتني سلاح ويقوص ع حدا»، ضحكة الأطفال مع ذلك لن تبعد الشقاق الدموي. نعرف ان الحروب لا توفر الأطفال وانها تخنق ضحكات الأطفال في الدم. رأينا ذلك في الحرب اللبنانية ونراه كل يوم في «الجزيرة» و«العربية». نرى كل يوم تقريباً أطفالاً مدمين اختنقت ضحكاتهم إلى الأبد في الدم، لا تستطيع ان نعتمد على ضحكات الأطفال فالمقاتلون اضرى واشرس امام الضحكة، والمقاتلون اضرى امام معالم الحياة والفرح، هذه تستفز غريزة القتل، كما استفز الغناء قتلة القاشوش وكما يستفز الأطفال ذابحي الأطفال.

من الواضح ان عنوان فيلم عايدة كنفاني زهار «مصالحات ما قبل الحرب» يضع الحد على استعصاء المصالحات. في كترمايا وفي عبيه وفي بريح لا تزال الحرب ماثلة. الكبار لم يعودوا إلى قراهم ولا يزال مثلث «حقي، حريتي، كرامتي» كما عبر أحد المشاركين في الفيلم بعيداً، اما الصغار الذين نشأوا خارج هذه القرى فإن دنياهم في المدن التي انتقلوا إليها، درس عايدة كنفاني زهار الذي تنقله هو ان الحرب الأهلية لا تكون في يوم بعيدة، وكل الدلائل التي تدحضها قابلة للزوال في لحظة.

[ الفيلم تزامن مع صدور كتاب لعايدة كنفاني زهار بعنوان «لبنان الحرب والذاكرة» صدر عن منشورات جامعات رين.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى