صفحات العالم

دروس العراق في سوريا

 

جاكسون ديل

كان حلول الذكرى العاشرة لحرب العراق دافعاً لإجراء العديد من التحليلات عن الأخطاء التي ارتكبت في تلك الحرب، ومناقشة بعض الدعاوى المتجنية التي تقول إن «نفس الأشخاص» الذين دعموا الحرب في العراق، يضغطون الآن من أجل التدخل الأميركي في سوريا.

وبما أنني واحد من هؤلاء الأشخاص، فإنني لا أملك سوى ترديد السؤال نفسه الذي يردده المجادلون وهو: هل تعلمت شيئاً من العقد الماضي؟ وهل أريد حقاً أن أكرر الـ«فشل الذريع» الذي حدث في العراق؟

دعونا نبدأ بالسؤال الثاني. ليس هناك شك في أن العراق كان مكلفاً ومؤلماً للولايات المتحدة الأميركية سواء من الناحية المادية، أو من ناحية العلاقات السياسية، أو -وهذا هو الأهم- من ناحية الخسائر في الأرواح، سواء أرواح الأميركيين أو العراقيين. وهذه الحرب لم تنتهِ حتى الآن على النحو الذي آملنا فيه نحن الذين دعمناها.

وعلى رغم ذلك، يمكننا القول إن سوريا، وفي غياب تدخل أميركي، تبدو كما لو كانت قادرة على إفراز كارثة إنسانية أسوأ بكثير، ونكوصاً استراتيجياً أخطر كثيراً على الولايات المتحدة.

ويتشابه العراق وسوريا في العديد من الجوانب: فكلاهما رسمه الدبلوماسيون البريطانيون والفرنسيون على الخرائط عام 1916. وكلاهما يضم مزيجاً قابلاً للاشتعال من المجموعات العرقية والطوائف الدينية يشمل أكراداً وعرباً وسنة وشيعة ومسيحيين. وكلاهما بقي متماسكاً طيلة القرن العشرين بقوة طغاة عديمي الرحمة. ولأن أولئك الطغاة كانوا يمثلون أقليات مذهبية، فإنهم لم يجدوا مفراً من اللجوء لاستخدام القمع، والحكم العسكري، ودعاوى القومية العربية، والمذابح الجماعية، إذا ما لزم الأمر لإبقاء بلديهما موحدين.

فكل من نظام صدّام في العراق، والأسد في سوريا غازل الإرهابيين، وكدس أسلحة الدمار الشامل؛ بيد أن عائلة الأسد، على خلاف صدام، لم تضطر أبداً إلى التخلي عن ترسانتها الكيماوية والبيولوجية.

ولكن كان من المحتم، بعد استنفاد الغرض من إيديولوجياتهما ونموذجيهما الاقتصاديين، أن تتفكك هاتان الدولتان، وأن تطالب الأغلبية الشيعية المقموعة في العراق والأغلبية السنية المسحوقة في سوريا برفع الظلم ورد الاعتبار. والفارق بينهما هو أن الولايات المتحدة هي التي دشنت التحول في العراق، عندما تخلصت سريعاً من النظام القديم وعملت كعازل حال دون استمرار تفاقم الصراع الطائفي الذي كان من المحتم أن ينفجر عقب ذلك مباشرة. أما في سوريا فقد آثرت الولايات المتحدة رفع يديها، واكتفت بتقديم مساعدة بشرية، وحثت المعارضة على التوحد، ورفضت التدخل -فيما عدا ذلك.

والنتيجة أنه لم يُقتل أو يصب أي جندي أميركي في سوريا حتى ساعتنا هذه، وأن الأكلاف المادية، حتى حينه، لم تزد عن مئات ملايين الدولارات بدلاً من مئات المليارات. ولكن التكلفة الإنسانية في سوريا نفسها حتى الآن فاقت مثيلتها في العراق بفارق كبير. فوصول عدد القتلى السوريين إلى 70 ألفاً خلال عامين فقط، يعني أن سوريا تقدم معدلاً للخسائر البشرية يفوق بمقدار الضعفين المعدل في العراق بعد الغزو الأميركي. وبوصول عدد اللاجئين السوريين الذين فروا نحو البلاد المجاورة إلى 1,1 مليون شخص وتوقع وصوله إلى 3 ملايين بنهاية هذا العام، فإن تلك الأعداد في طريقها لتجاوز مثيلتها في العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003 بنسبة 50 في المئة.

وفي العراق تصدت الولايات المتحدة لتنظيم «القاعدة» وتمكنت في نهاية المطاف من إلحاق هزيمة ساحقة به. أما في سوريا فنجد أن «جبهة النصرة» وهي أحد فروع «القاعدة»، تكسب أرضاً باستمرار، وتشجع على إحياء «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» مرة أخرى.

ونهج إدارة أوباما في البقاء بعيداً عن التورط في الأزمة السورية، لا يوفر السبل التي يمكن بها كبح هذا التهديد، أو منع «القاعدة» من السيطرة في نهاية المطاف على مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.

وقد حرضت حرب العراق على تدخل منخفض المستوى من قبل إيران، وسوريا، وغيرها من الدول المجاورة في الشأن الداخلي لذلك البلد، ولكن المنطقة المحيطة بقيت سليمة بفضل الوجود الأميركي. أما في سوريا فإننا نجد أن آثار المجزرة الدائرة فيها من دون كابح تنتقل عبر الحدود إلى لبنان والعراق، بل وتهدد حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل، والأردن، وتركيا، في الآن ذاته الذي نجد فيه أن إيران وبعض الدول المجاورة ترسل كميات كبيرة من الأسلحة وفي بعض الأحيان الوحدات القتالية، للمشاركة في الصراع المحتدم في هذا البلد.

هل يعني كل هذا أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل على إرسال مئات الآلاف من جنودها إلى سوريا؟ بالطبع لا. إن المأساة في «منطق ما بعد العراق» الذي يتبناه أوباما، هو أنه يستبعد ليس فقط التدخلات المماثلة لنمط تدخلات بوش، وإنما أيضاً التدخلات الأكثر تواضعاً، التي استخدمتها إدارة كلينتون لمنح حدوث كوارث إنسانية، وحماية مصالح الولايات المتحدة في العديد من مناطق العالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي.

فكما كان الأمر في منطقة البلقان -وإلى حد كبير ليبيا- كان بإمكان استخدام حجم محدود من القوة الجوية الأميركية، والتعاون مع القوات الموجودة على الأرض، أن يضع نهاية سريعة لنظام الأسد منذ 18 شهراً، وهو ما كان كفيلاً بتوفير حياة 60 ألف سوريا قضوا نحبهم في تلك المذبحة، والحيلولة كذلك دون عودة «القاعدة» مجدداً. ومثل هذا التدخل ما زال بمقدوره -حتى الآن- حماية المنطقة الأوسع نطاقاً من الدمار والخراب.

والمشكلة هنا ليست في أن المدافعين عن حرب العراق قد فشلوا في تعلم الدروس، وإنما المشكلة هي أن المعارضين لتلك الحرب، بدءاً من أوباما نفسه، قد تعلموا منها الدروس الخطأ.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى