مراجعات كتب

دعوة حنّة أرندت لنا للتفكير في ما نفعل

 

 

مراجعة د. عفيف عثمان

[ الكتاب: الوضع البشري

[ الكاتب: حنّة أرندت وترجمة هادية العرقي

[ الناشر: دار جداول (بيروت) ومؤمنون بلا حدود المغرب 2015

توالت في السنين الأخيرة ترجمة أعمال فيلسوفة السياسة، الألمانية حنّة أرندت H. Arendt (1906 1975) الى اللغة العربية: في العنف (1992)، أسس التوتاليتارية (1994)، في الثورة (2012)، أيخمان في القدس (2014)، في السياسة (2015). وراهناً الوضع البشري (Condition de lhomme moderne)، الصادر عام 1958 باللغة الإنجليزية. وهذه الأعمال في مجملها تغطي ميادين تفكيرها وانشغالاتها العملية.

الكتاب المترجم في أصله مجموعة محاضرات ألقيت في العام 1956 في جامعة شيكاغو، تحت عنوان «الحياة العملية» (vita activa) (قبالة الحياة التأملية)، وغرض المفكرة الألمانية الإهتمام بما يمارسه البشر في حياتهم وفي شرط وجودهم، وفي توقهم للعيش ضمن نظام ديموقراطي، وهي تستند في شكل رئيس الى التراث اليوناني ومن ثم، في شكل أقل، الى التقليد الروماني، وهذا الإلقاء الشفوي يفسر الى حد بعيد أسلوب الجمل الطويلة السائد في النصوص.

في الإستهلال المكتوب في العام 1957 تقرأ أرندت في إطلاق مركبة فضائية الى القمر في العام نفسه، رغبة البشر في الخروج من السجن الأرضي والإنعتاق من الشروط التي تقيدهم، وتبدو رائية الى «الثورة» المعتملة في الصدور «ضد الوجود البشري كما يُعطى»، لأن الإنسان تواق الى شيء ينجزه «من صنع يديه». وهي تتلمس تقدم العلوم والإنفجارات المعرفية وتتوقع أن يحصل مثلها على مستوى الفكر و»اللغة» وتحقيق حلم راود كثيرين، وهو التحرر من عبء العمل، لكن، كيف يمكن تصور مجتمع من دون عمل؟ لذا تقترح «إعادة النظر في الوضع البشري»، وتضيف» إن ما أقترحه اذن بسيط جداً: لا شيء أكثر من التفكير في ما نفعل».

والحال، تميّز ناقدة الشمولية في الحياة العملية ثلاثة أنشطة: العمل ( Labor, Le travail)، و»الأثر» (Work, oeuvre)، (من حق المترجمة أن تجتهد وتقترح هنا، لكن الخشية من عدم الوضوح، لا سيّما أن عبارة «الأثر» استخدمت في شرح تفكيكية جاك دريدا. وبحسب السياق يمكن الكلام عن «الإنجاز» أو «الإصطناع»، في مقابل ما هو طبيعي، فالعمل يعني الكدح» الجهد الجسدي» الضروري للبقاء على قيد الحياة، فالأولى الإجتهاد في النشاط الأول، وإطلاق صفة العمل على النشاط الثاني)، وأخيراً، الفعل (action)، ذلك النشاط الذي يضع البشر في علاقة، البشر ككثرة. وهذا «الوضع البشري» المعطى هو من صنع الناس، ويشرطهم في الوقت عينه. ومن الصعب، في نظرها، تعريف ما هو بشري كما نعرّف الأشياء المادية المحيطة بنا، والخوض في هذا الأمر ينتهي دائماً «باختراع ألوهية ما»، أي أن البحث عن فكرة الإنسان تحيلنا الى ما هو «فوق إنساني» وتتماهى نتيجة ذلك «مع الإلهي»، ما يجعل «مفهوم «الطبيعة البشرية» نفسه مريباً».

تعرض أرندت لمفهوم «الحياة العملية» في التقليد الفلسفي، الذي بدأ مع سقراط من لحظة النزاع بين المدينة والفيلسوف، فتجده حاضراً عند القديس أوغسطين وأرسطو وفي مسيحية القرون الوسطى، وقد عنى «الحياة التأملية»، وهي تنحاز الى مفهوم آخر ترى فيه «إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف إلا ما يفعل هو نفسه».

وتؤكد الفيلسوفة الألمانية على دور «الوسط» البشري والمادي في حياة الإنسان، ولا يمكن تصوّر أي فعل خارج هذا الإطار، لا بل هو مشروط «بالحضور الدائم للآخرين» أي المجتمع، اذ أن الإنسان «حيوان إجتماعي». وقد أدى ميلاد المدينة الدولة الى اكتساب الإنسان سمة ثانية هي «الحياة السياسية» (حيوان سياسي كما يقول أرسطو)، أو التنظيم السياسي، فالى حياته الخاصة بات هناك ما هو مشترك ، وانقسم الفضاء على هذا النحو الى مجالين: المجال العمومي والمجال الخاص، فكل ما يظهر في الأول»يمكن أن يراه الجميع ويسمعوه، وهو يتمتع بأكبر قدر من الإشهار»، ويُعادِل «الواقع»، وتصورنا له يعتمد على «المظهر»، ويرتبط بما ينتجه البشر وما يقيمونه من صِلات: «أن نعيش معاً في العالم يعني أساساً أن عالماً من الأشياء يوجد بين من يشتركون فيه، مثلما توجد طاولة بين من يجلسون حولها، أن العالم مثل كل ما هو مشترك بين إثنين، يربط البشر ويفرقهم في الوقت نفسه». أما الثاني فيضاد الأول تماماً، ويحرمنا من «الواقعيّة» ومن العلاقة «الموضوعية» مع الآخرين. وعندها إن لكل مجال أشياءه الخاصة، فبعضها يحتاج الى الإخفاء وبعضها يُعرض أمام العموم، ولا سيّما الأنشطة الرئيسة للحياة العملية: العمل والأثر والفعل، والتمييّز الثلاثي هذا مدخل أرندت لنقد كارل ماركس. فالعمل (Labor) يميّز «الحيوان الكادح» (lanimal Laborans)، وينحصر في سد الحاجات البيولوجية الضرورية للحياة، وما ينتجه للإستهلاك، يحمل طابعاً عرضياً، لا يدوم، وهذا العمل فردي يؤديه كل واحد بمعزل عن الآخرين، رغم أنه الشرط لكل نشاط لاحق. وبهذا المعنى، فإن دائرة العمل المنعزلة هذه تقع على الضد من السياسة. أما «الأثر» (Work) فيميّز «الإنسان الصانع» (lhomo faber)، وهو يتحدد في خلق حاجات لها صفة الدوام، مثل المنازل والمعابد والتصاوير والأشعار…الخ. والصانع هنا يُساهم في العالم المشترك من خلال إنتاجه لأشياء تبقى وذات فائدة. أما الفعل فيميّز «الإنسان الفاعل» (lhomme agissant)، وهو النشاط الوحيد الذي يضع الناس في علاقة مع بعضهم بعضاً، والفاعل ينخرط في حياة المدينة، ما يؤدي الى قيام مجال عام، ووعيّ سمة التعدد (ملح الأرض كما قالت أرندت في أحد كتبها)، وهذا جوهر الشرط البشري، والإنسان الفاعل هو المتكلم في مجتمع متساوً بعيداً من شبح الشمولية.

ساهمت أحداث ثلاثة في رسم معالم العصر الحديث، في رأي أرندت، وهي: إكتشاف أميركا والأرض بكاملها لاحقاً، والإصلاح الديني وآثاره، ومن ثم اكتشاف التلسكوب، وهذه قربت المسافات وقلصت الأبعاد، لكن بثمن «وضع مسافة حاسمة بين الإنسان والأرض، وبشرط جعل الإنسان يغترب عن محيطه الأرضي المباشر»، وقد سبق لعالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن أشار لمقولة «الزهد في العالم»، مثابة المصدر العميق للعقلية الرأسمالية الجديدة». إذاً، السمة الأساسية لهذا العالم الحديث هي الإغتراب، ومعادلها في الفلسفة الحديثة العودة الى الذات ورائدها الفرنسي رينه ديكارت، وتوجز أرندت:»ليس اغتراب الأنا، كما كان ماركس يعتقد هي خاصية العصر الحديث، بل هي الإغتراب عن العالم».

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى