دكتاتور الغيتو في المنطقة الرمادية
جولان حاجي
كان اسمه حاييم رومكوفسكي. أرمل في الستين، دون أولاد، ورحالة عملَ كمدير مؤسسة خيرية وعُرف بالتسلط والحيوية. بعد إخفاقات عديدة في التجارة والصناعة، عيّنه النازيون عام 1940 رئيساً لغيتو لودز، الأكبر في بولونيا بعد غيتو وارسو، وشبيهه مانشستر.
تحايل رومكوفسكي على أعدائه ليرتضوا بتنصيبه رئيساً، فمدمن سلطة مثله أدمن الإنكار وانتهى به الحمق إلى تصديق الأكاذيب التي واظب على تلفيقها. ظلَّ المنصب مغرياً، ولم يكن مستعداً قطّ ليتنازل عن حصته من السلطة مهما ضؤلت. أحاطه الألمان في البداية بوهم الحفاوة والتقدير فعاملوه معاملة الملوك ثم تلاعبوا به حين فاوضهم واحتقروه علناً. ففي إحدى المرات صفعه ضابط غستابو على الملأ حين هبَّ مدافعاً عن مستشاريه. ولكنه، كما قال، يعرف دائماً كيف يتحمّل المشقّات ويصون كرامته في آن.
بوصول الجيش الأحمر في خريف 1944، لم يكن قد تبقى من شعب رومكوفسكي إلا ألف عامل منهك في معامل النسيج، المخصّص للتصدير إلى القوات المسلحة الألمانية، وأولئك العمال هم رواة هذه السيرة الحقيقيون. قايضهم الرئيس في صفقة مع تاجر نازي كبير، فوقّع له الأخير رسالة توصي بحسن معاملته عند الاعتقال، لتقلّه إلى حتفه سيارة فخمة تتقدّمُ موكباً من المشاة البؤساء والمساكين. كان شقيقه في عداد المهدَّدين بالتهجير إلى معسكرات الإبادة، هما اللذان ما انفصلا قط سهّلَ الألمان هروبهما، ولم يعرف أحد عن مصيرهما ومكانهما غير الشائعات.
في سنوات حكمه الأربع اختلطت البربرية وجنون العظمة مع حسن الجوار. لم يلبث أن اعتبر نفسه ملكاً مطلقاً، متنوِّراً يؤازره أعداءُ شعبه ويتغاضى كيف يلهون ويتسلّون به. طُبعتْ صوره على المسكوكات، المتداولة داخل أسوار الغيتو فحسب، والعديمة القيمة خارجها. رُسم وجهه على الطوابع ورأسه في اللافتات متوّجاً بهالةٍ فضية، “هالة الأمل والإيمان”. كانت له عربة يجرها حصان هزيل تجوب به خرائبَ مملكته الصغيرة، وحاشية من المتملّقين والرسّامين وشعراء البلاط الذين تغنّوا بـ “سماحة يديه السخيّتين”، والمدّاحون ينالون لقاء قصائدهم حبة بطاطا أو رغيف خبز.
شأن طغاة كثيرين، كان رومكوفسكي، “المخلِّص وبطل السلام”، ينتظر من مواطنيه المحاصَرين والمجوَّعين الطاعةَ والولاء والإحترام والحب، فاستغرقته أحلامه الصبيانية وتصوّراته المشوّهة عن العالم وولعه بإطلاق الأوامر والكذب والاستخفاف بالقوانين.
كان التلاميذ المرضى وسيّئو التغذية والناجون من الغارات الجوية يُؤمَرون في المدارس بترديد “رئيسنا المفدَّى نحبك”، بينما رجال شرطته ومخبروه الموكَلون بفرض النظام بحذافيره كانت مهمتهم الأساسية هي حراسته بالهراوات.
في خطاباته كان الإنتحال واضحاً: كانت محاكاته أسلوب قُدوتيه هتلر وموسوليني مقصودة؛ أسلوب طاغية صغير، كليّ القدرة أمام شعبه وعاجز تماماً أمام عتاة الطغاة والمجرمين.
يبقى أن نقول: تقريباً لم يكن هناك أحد محصَّناً أمام إفساد النازية المنظّم لضحاياها، فتمثّلها بعض ضعافهم، ممن قالوا عن الحتمية: “كنتُ مرغَماً. لو لم أقمْ بهذا الفعل أو ذاك لقام به أحد غيري”. لكن الذرائع ما أعفت أحداً من المسؤولية في يوم. قد نرى في رومكوفسكي مرآتنا، غموضه غموضنا وطبيعتنا الثانية، في حمى النزول إلى الجحيم محفوفين بالأبواق والطبول. نحن أيضاً تبهرنا السلطة والمنزلة الاجتماعية فننسى غالباً هشاشتنا الجوهرية.
(وردت هذه القصة بروايتين مختلفتين قليلاً، إحداهما في “الغرقى والناجون”، والأخرى في “لحظات الخلاص”، والكتابان كلاهما ألّفهما بريمو ليفي، ومترجَمان إلى الإنكليزية).
المدن