دلالات النزاع الإقليمي
سليمان تقي الدين
لا يمكن التقليل من حجم القوة العسكرية الإيرانية وما حققته من تقدم تكنولوجي خلال ثلاثة عقود . لكن استعراضات القوة والتحدي الذي تظهره في وجه الولايات المتحدة لا يمكن فهمه على أنه توازن عسكري فعلي . إيران لا تواجه أمريكا مباشرة بل تنافسها على النفوذ في محيطها الإقليمي بدعم القوى والحركات المناهضة لأمريكا .
أجرت إيران تفاهمات معلنة وضمنية أحياناً مع أمريكا في العراق وافغانستان وباكستان مستغلة التورط الأمريكي لكنها لم تواجه مباشرة الوجود الأمريكي في هذه المنطقة .
تحسب إيران بالسياسة الاستراتيجية أن لا مصلحة للغرب في تفجير منطقة الشرق الأوسط ولا سيما من زاوية مصالحه النفطية ومن زاوية الفوضى التي يمكن أن تعم ويستفيد منها أكثر من طرف دولي خصوصاً القوى المؤثرة في آسيا كالصين وروسيا . على هذه الحسابات تلعب إيران في قضم بعض المواقع والمصالح والنفوذ . ما تريده إيران هو إيجاد حزام أمن استراتيجي في محيطها ونفوذ كالذي حصلت عليه في العراق وتحصل عليه في أفغانستان وباكستان أو عبر بعض الجهات السياسية في المشرق العربي . رغم كل الضجيج الأيديولوجي فإن إيران دولة قومية ذات مصالح . تدرك إيران أن فكرها السياسي لا مكان له في عموم العالم العربي والإسلامي . فالإسلام السياسي الذي تتبناه لا يلائم ثقافة عموم المنطقة وهو ساهم في ما أسماه أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، صحوة الإسلام السني . بالتأكيد ليست المسألة فقهية وليست النزاعات على هذا النحو في المنطقة، لكنها تتخذ مثل هذه الهويات بحكم الواقع .
لم يعرف العالم العربي من قبل هذه الموجة من التعصب أو هذه الحدّة في التعامل مع المسألة المذهبية . ولم يسبق للشيعة العرب أن أعلنوا عن هوية سياسية مذهبية على نحو ما صار بعد صعود الدور الإيراني، ولم تستطع إيران أن تخترق العالم العربي على هذا النحو إلاّ في ظل الهجوم العسكري الأمريكي على المنطقة وتغيير أولوياتها ومساراتها . لقد تحول الضعف العربي أمام محاولات أمريكا إعادة صياغة الشرق الأوسط كنظام إقليمي جديد فرصة لإيران كي تتصدر واجهة الاعتراض على السياسة الأمريكية . لكن خطابها الأيديولوجي أقلق العرب وجعلهم غير مطمئنين لأهدافها الإقليمية فما عادوا يفكرون في التعاون على أساس انتاج نظام إقليمي إسلامي يحفظ مصلحة جميع الأطراف . سبق للعرب أن اتخذوا مسافة بعيدة من تركيا السنية التي انكفأت عن المنطقة ولأنها تعاونت مع الغرب على نحو صريح وواضح ولم تأخذ في الاعتبار المصالح العربية .
صحيح أن العرب مسؤولون عن مصير العراق، لكن تجربة تعامل إيران مع العراق في ظل الاحتلال الأمريكي لم تكن مشجعة للتعاون على إنقاذ العراق من محنته والحفاظ على وحدته وتسريع تخلّصه من الاحتلال .
ما تحاوله إيران اليوم من استعراض وتحدي الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لا يجعلها الطرف الذي سيدفع ثمن المواجهة إذا وقعت بأشكال مختلفة . في عمق الخطة الإيرانية أن لا حرب مباشرة على إيران لأكثر من سبب من بينها الظهير الصيني والروسي . إيران تخوض حروباً بالواسطة على الأرض العربية وبواسطة القوى العربية ولن تخسر الكثير إذا ما تحولت المنطقة بؤرة نزاعات وحروب صغيرة وحروب أهلية . حتى في مواجهة الكيان الصهيوني لا تشكل إيران خط تماس أو دولة حدود وأي حرب ستقع لن تطالها إلاّ في حدود جزئية . تستثمر إيران على الصراع مع الكيان الصهيوني شرعية عربية وإسلامية وتحصد نفوذاً في بعض الأوساط وأوراق قوة للتفاوض مع الغرب على دورها الإقليمي .
خلال ثلاثة عقود لم يظهر أن الدور الإيراني استطاع أن يغير المعادلة الإقليمية لمصلحة العرب في مواجهة التحدي الصهيوني . بل هو جذب الأمريكيين أكثر نحو المنطقة، وشكل حافزاً للتدخل العسكري المباشر . في حصيلة هذه المرحلة لا يبدو واضحاً أن الكيان الصهيوني قد تراجع أو إلى تراجع رغم دعم الحركات المقاومة له . لا نضع المسؤولية على طرف واحد من الأطراف باعتبار أن العرب هم أصحاب القضية أساساً وهم من فشلوا في إيجاد الحلول لها .
لكن بروز قوى إقليمية أخرى سواء أكانت إيران أو تركيا على مسرح الصراع يأخذ من الرصيد العربي ولا يضيف إليه نوعياً في ظل غياب التعاون بين هذه الأطراف، بل وفي ظل الحذر والقلق والمناكفة .
الخليج