السوري الواقف على تلة، يسرح نظره في المدى البعيد منتظراً عبور طائرات لا ترى أو صواريخ لا تلمحها عيناه، يغالب موجة سعال خلفتها سحابة كيميائية جثمت طيلة الأسبوع في سماء قريته فنسيت، دون قصد منها، جسده وراءها بعد أن أخذت معها أرواح أفراد عائلته. السوري الواقف على التلة يرهف السمع منتظراً سماع الدوي أو رؤية الشظايا، شظايا من قطعوا جسد أطفاله بصاروخٍ أو برميل. السوري الواقف على التلة يرقب انعكاس ضوء على جناح طائرة قادمة من خلف البحر لتنتقم ممن ساق أولاده إلى الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية ليعودوا في توابيتَ تقاطرت إلى جوف التربة خلف منزله الخائف من صوت رعد يوقع سقفَه على رأسِه. هذا السوري بات ينتظر القذيفة أو شظاياها لتأخذ روحه غير آسفٍ على اصطفاف أيامه خلف أيامه في سلسلة تسمى خطأ حياة.
انقسم السوريون على مدى سنتين ونصف، هي عمر ما يسميه بعضهم “الأزمة” وعمر “الثورة” حسب تسمية آخرين. اختلفوا إذن على التسمية كما اختلفوا على الولاء فأخرج اختلافهم أحقاداً. بعضهم نبش أحقاده من الماضي ومن النسيان، وبعضهم زرع الحاضر والموت فيه أحقاداً. لكنهم اتفقوا الآن على أن الضربة الموعودة قد قرَّبها ضرب “الكيماوي” على الغوطتين واقترب معها المجهول الذي لم يعودوا يخافون منه. لقد وحَّدّهُم ترقب هذه الضربة، لكن سيقيد لها أن تكرس انقسامهم، هي التي يطلبها البعض لتخلصه ويرفضها البعض لأنها فاتحة احتلال وتدمير ما لم يدمر من البلاد. ولكن مهما كان من هدف الضربة سيبقى على السوري أن يعيش متنقلاً بين مياه تدلف على رأسه من السقف الخرب وهو داخل البيت وبين المزراب الذي ينتظره إن خرج. كما سيبقى موزعاً بين شَرَّين أهونهما ليس هيناً بالنسبة له.
قد يشهد هؤلاء السوريون جميعاً حرباً ليس لها سوى هدف واحد هو أن تبقى حرباً نارها دائمة التوقد. حربٌ قد تبدأ كما كل الحروب بالطائرات والصواريخ العابرة للقارات والموجهة في البداية إلى أهداف مهمة فتدمّرها وتشلّ حركة المطارات والطرقات والجسور وتقصف أبنية ومقرات القيادة عبر الصواريخ الذكية. ثم تستأنف أقل ضراوة، فتستهدف دون قصد أبنية المواطنين ومصالحهم عبر صواريخ أقل ذكاء. لتكمل بعدئذ عبر طائرات دون طيار تضرب سيارة هنا أو دراجة هوائية هناك، أو ملعب أطفال تحسبه مركز تدريب للمسلحين هنالك.
أما إذا ما انفردت الولايات المتحدة وقررت ممارسة عقيدتها الجديدة، عقيدة التدخل عبر الطائرات دون طيار، فهو أمر واحد لا يمكن تجنبه: إنه الحرب التي لا تعرف كللاً أو مللاً وتستطيع الانقضاض في أي مكان أو تدمير أية منشأة أو قتل أي شخص إن وضعت المعلومات الصحيحة عنه في ذاكرتها. كأن تضع تسجيلاً يسفر عن تخزين لبصمة صوت رجل مستهدف بالقتل يسهِّل عملها ويتولى إنجازه في أقل من دقائق، تلك المعلومات التي يمكن أن تعززها بصمة العين أو بصمة الأصابع إن توفرت.
سيعرف السوريون أن اهتمام الرئيس الأميركي لا ينصب على مشاكلهم، كما أنه ليس من هواة قرض الشعر أو قراءته للجميلات. فهو لا يأبه بجمال عيونهم، ولا هو استسلم ولم تعد له المقدرة على مقاومة لحظها. فالجغرافيا السورية واتساعها وتوفر الجهاديين على أرضها هي مجرد مقبلات تسيِّل لعابه لتشغيل ترسانته ذات الـ 8000 طائرة دون طيار، وتسويقها بالتالي على مستوى العالم. فالحرب التي تشنها الإدارة الأميركية على العالم منذ عام 2002 دون أن تعلنها باتت أحوج إلى إعلانها على أرض ما، ويمكن لسوريا أن تحظى طويلاً بذلك الشرف.
المدن
