دمشق التي لم تعد الآن هنا (1)
سمر يزبك
هنا دمشق. الجملة التي اعتدنا سماعها أطفالاً في المذياع. كل السوريين يعرفون رنة هذه الجملة: طبعاً هنا دمشق. بعد أن تحولت دمشق من مدينة إلى عاصمة! وهاجر السوريون من مدنهم الصغيرة وقراهم وبواديهم. صارت دمشق مكاناً وسطاً، مثل تصاريف الحياة اليومية لامرأة تعد عشاء زوجها من دون أن تفكر بصناعة الحب معه.
لكن دمشق لم تعد هنا الآن، على رغم أنها تمطر بنعومة، فقد توزعت على كامل الجغرافيا السورية دفعة واحدة!
اليوم الجمعة، ولن يتكرر الرذاذ. توقف بما يكفي ليخرج الناس إلى الشوارع ويتجمعون في الساحات والجوامع. من يتذكر الآن الصادق النيهوم والجامع؟ من يعرف الآن أن كل متظاهر هو مشروع موت!
الموت لعبة غير واضحة الملامح. هذه اليوميات جعلت من الموت لوحة للتشكيل. لوحة غامضة واهية، لكنها ماثلة أمامي عبر صدور الشباب العزّل الذين يخرجون للموت. كيف ستغفر هدهدات الأمهات للقتلة؟ كيف سيتمرن الدونكيشوتيون على العدالة وسط هذه الجموع، وتمارين العدالة لا تأتي إلا بالقليل منها، والكثير من الظلم. لكن البطولة ليست مجداً يشبه أكاليل الغار، هذا وهم إغريقي، البطولة أن أكون في ضفة الضعفاء حتى يقووا، أو أن أعيد تدوير الأرض وكتابتها بأصابعي الهشة وبضع كلمات مهلهلة. هل أفعل كما كتب رامبو في فصول جحيمه: «أرسلت إلى الشيطان أكاليل الشهداء وأنوار الفنون، وكبرياء المبدعين، وتوجهت إلى الحكمة الأبدية».
يتوقف الرذاذ. تسطع شمس بخيلة، ثم يعاود الانزلاق فوق خدي. هذه لحظة حياة، أشرب قطرات الرذاذ، قبل أن أركب سيارة الأجرة واتجه إلى دوما «إحدى ضواحي دمشق»، أفكر أن هذه اليوميات تشبه خلاصاً أو زعيقاً، ولكن هي في النهاية مجرد كلمات، هكذا أعد نفسي للاقتحام، يفترضها من حولي شجاعة، وهم في الحقيقة يرتكبون خطأً، فمنذ اللحظة التي تتجه السيارة فيها إلى مكان التظاهر، تنحل ركبتاي، ويجف حلقي، وأسمع وكالعادة تلك النبضات؛ الخوف حالة إنسانية لم يعطها البشر حقها، هي شرح معنى للحب. الخوف يعني أنك ما زلت بشرياً وسط هذا الركام.
نقترب من حرستا، وهي الضاحية التي يجب تجاوزها للوصول إلى دوما. السائق شاب في منتصف العشرينات، هادئ. اكتشف لاحقاً أنه شجاع. يقول لي: إن الطريق مقطوعة هنا. أستفيق من شرودي، وألمح خطاً طويلاً من السيارات. الصمت مطبق! أول مرة أرى هذا الازدحام والناس هادئة إلى هذا الحد. نزلت من السيارة، وتجاوزت بضع سيارات لأرى ما يحدث، كانت هناك حافلات نقل داخلي عدة تابعة للحكومة، بلون أخضر ومقاعد صفراء، الحافلات تقف وتعطل حركة السير. داخل الحافلات كان شباب يزدحمون فوق بعضهم بعضاً، قياماً وقعوداً. ينزلون ويتوزعون على جانبي الشارع. حشود كبيرة منهم تنزل، والجميع صامت. الشباب الذين يندلقون من بطون الباصات يحركهم ويقودهم بعض الرجال، الذين يرتدون ثياباً كحلية ورمادية موحدة، كانت وجوه الشباب قاسية، لكنها متعبة، وهم في الغالب حليقو الرؤوس، ويبدو الفقر واضحاً عليهم، اقتربُ من أحد الرجال الذين يجمعونهم وأسأله: ماذا يحدث؟ يعبس ويتجاهل سؤالي. لا توجد نساء في الشارع، فقط امرأة لمحتها من بعيد، تضع نقاباً أسود، وتجر طفلاً وتركض مذعورة. الناس خائفة، ورجل في السيارة مدَّ رأسه وقال: «ارجعي يا أختي هدون أمن». قلت: «والشباب الذين ينزلون من الباصات ماذا سيفعلون بهم؟»… صمت ولم يجب. لكنني خمنت.
كانوا بالمئات، وربما أكثر، وقفنا نصف ساعة حتى نزلوا وانتشروا على الجانبين، وشكلوا جيشاً صغيراً، ثم ظهر الرعب على وجوه الناس، ورأيت كيف يتراجعون عن الأرصفة ويختفون. وقف حاجز عسكري على مدخل دوما. كان هناك الكثير من رجال الأمن يفتشون الشاحنات، ويدققون في الهويات، وعشرات السيارات تعود أدراجها، وعشرات من الشباب يقفون جانباً، ومجموعات من رجال الأمن يقومون باستجوابهم، لم أكن أعرف حينها أن دوما محاصرة، وأن هناك طوقاً أمنياً حول دمشق وضواحيها.
وراء رجال الأمن، وقف الكثير من الرجال بلباس عسكري كامل مع خوذاتهم من الجانبين. أوقفوا السيارة، وقال لي رجل أمن: «وين رايحة؟»… أجبته بأن لي زيارة هنا، نظر إليّ بصرامة، وطلب مني النزول من السيارة. نزلت من السيارة، ثم حدق بفضول. كان قصيراً، وربما أغاظه أن أكون أطول قامة منه، فابتعد قليلاً، وطلب هويتي: قال بعد أن قلب هويتي: «مدام، المكان هون فيه زعران، يا ريت ما تدخلي»، قلت له: «عندي زيارة لعشر دقايق عند خياطة»، ولحسن الحظ أعرف خياطة هنا. أخبرته عن اسمها، وقلت له: «اتصل بها إذا بدك؟»، فتح باب السيارة، وطلب من السائق أن يتابع. تنفست. معاملة خمس نجوم. أضفت بسذاجة: «شو في؟»، قال: «ولا شي أبداً ما في شي». قلت: «وليش كل هالعسكر والأمن؟»… «ما في شي والله ما في شي». أضاف، وأنا اطمأننت أنني أجدت الدور الذي أحب لعبه دائماً، التظاهر بعدم معرفة أي شيء، لمعرفة كل شيء، والصمت أمام من يحبون الكلام، والأهم بعد ذلك: المراقبة.
انطلقت السيارة، بالكاد نظرت إلى الأمام، حتى رأيت حاجزاً عسكرياً وأمنياً! ما هذا؟ بين الحاجز والحاجز حاجز؟ قلت للسائق: «يجب أن ندخل الأزقة». قال: «خلينا نرجع والله أنا خايف عليك». الحاجز الثاني كان كبيراً. رجال عسكريون يصطفون متلاصقين، يشكلون سداً في الطريق، وأمامهم سد آخر من رجال الأمن، شعرت أنني في فيلم عن احتلال بلدة فلسطينية! ما هذا الإرهاب البصري. في الحقيقة لم يكن بصرياً فقط، لأن ركبتيّ بدأتا تحرقانني وترتجفان.
عندما فتح ضابط باب السيارة، وقال بلهجة صارمة: «انزلي»، ركبتاي انقصفتا. وقفت. رمقني بفضول، وأخذ هويتي، كان يرتدي ثياباً مدنية، وإلى جانبه رجل، عرفت من لهجته أنه من منطقة الجزيرة، أما الرجل الذي كان يدقق في هويتي فكان من أبناء الساحل، ما هذه الحالة! الأمن والجيش إما من منطقة الجزيرة السورية أو من منطقة الساحل! ربما هي صدفة اليوم، فقد عرفت الكثير من رجال الأمن حالي حال السوريين أجمعين، ولكن الملاحظة التي جمعت بينهم أنهم كانوا من الأقليات. ينظر الرجل الجزراوي ويقول: «أنت مذيعة؟» قلت: «لأ». حدق بي، وفجأة مدّ يده ونزع نظارتي الشمسية، أمسكني بيدي بقوة، وقال: «شو جاي تعملي هون؟» الرجل الثاني يقول: «مذيعة؟ إيه بعرف اسمك أنا بشوفك عالتلفزيون»، وقلت له بيأس: «أنت مخطئ، عندي موعد مع الخياطة»، تشجعت قليلاً وصار صوتي أعلى: «وحضرتكون عم تخوفوا الناس، شوفي، شو صاير؟»، قال الرجل الساحلي: «أنت كنت تقدمي برنامج « ليدز فيرست» عرفتك، مرتي كانت تشوف البرنامج!»، وقفز من مكانه وقال للرجل الآخر صارخاً: «سيدي هي من قناة الأورينت»، وخلال ثوان انقلبت الدنيا! أُحطت بعشرات الرجال المسلحين، والمدنيين أيضاً، وصرت مثل نقطة وسط خطوط دائرة!
لم أعد أرى شيئاً وخنقتني الروائح، قلت: «يا أستاذ أنا كاتبة، وفعلاً من سنتين ولمدة ثلاثة أشهر قدمت برنامج على أورينت، وقبله كنت أقدم برنامج ثقافي على الفضائية السورية، وإذا بتريد تخليني كمل طريقي». قال واحد منهم: «سيدي ما تكون بدها تعمل شي لهدون الكلاب تبع الأورينت». واقترب أكثر مني، وشدني من كتفي، قلت له: «يا أستاذ ما إلي دخل بأي قناة، وإذا حضرتك عرفتني، لازم تكون محترم وتخليني أمشي، أنت رجل أمن، وواجبك تحميني مو تخوفني، بعدين خبروني شو في على الأقل؟»، خرجوا بصوت واحد: ما في شي ما في شي. قلت: «وليش كل هالعسكر ورجال الأمن؟»، قالوا: «ما في شي… ما في شي». قلت للرجل الذي يبدو أنه كبيرهم: «طيب خليني أطلع من هون عالأقل؟»، صمت قليلاً، وهزّ برأسه، وأنا سأختنق من إحاطتهم بي، ويدي صارت في حقيبتي، على السكين. السكين نفسه الذي أحمله أينما تحركت في هذه المدينة. كانت دقائق طويلة، لكنه أخيراً صرخ بي: «انقلعي من هون». فتفرقوا من حولي، وقبل أن أركب السيارة قال بلهجة بدوية: «والله إذا يترجعي لهون لأعمل من جلدك طبل». وأنا أغمض عيني، وأطبقهما بشدة حتى لا يلمح دموعي، تخيلت كيف يصير الجلد البشري طبلاً يُدق عليه لتهتز الخصور. تجاوزنا الحاجز الثاني. ما كل هؤلاء الجنود، ورجال الأمن؟ أين ناس البلدة؟ هل هي بلدة أشباح؟ حاولت الاتصال بصديقتي لأقول لها إنني في دوما، لا يوجد اتصالات. إذاً البلدة محاصرة من الخارج وفي الداخل. كان هناك حاجزان عسكريان آخران، ولم يختلف الكثير من التفاصيل، وبعد الحاجز الثاني رأيت الباصات الضخمة للحكومة نفسها، لكنها أكثر عدداً، ينزل منها الشباب.
هل هم الشباب أنفسهم الذين رأيتهم في حرستا! خمنت أن هذا اليوم لا بد من أن تكون قد اجتمعت فيه كل أجهزة الأمن، لأن الجهد واضح والانتشار الكثيف لهم يدل على أنهم من فروع عدة. شعرت بالرثاء على هؤلاء الجوعى الذي ينحشرون في الباصات، حيث يختبئ داخل كل منهم وحش صغير. وعدت الضابط في الحاجز الرابع أنني سأغادر دوما. لكنني وفي نهاية الشارع العريض حيث تنتهي البلدة، طلبت من السائق الانعطاف، ودخلنا الأزقة. ولد في العاشرة يركب دراجة هوائية ساعدنا، وطلب مني اللحاق به ليدلني إلى ساحة البلدية قرب الجامع الكبير، درنا حول الأراضي الزراعية، هناك أشجار زيتون؛ شجر الزيتون يؤلمني، سمعت من أيام على شاشة التلفزيون أحد الفلسطينيين من اللدّ، يتحدث كيف أجبره الإسرائيليون على هدم بيته، كان يبكي ويقول: «بيقولوا مين صاحبك؟» ثم يجلس تحت شجرة زيتون أمام بيته المهدم ويقول: «الزيتون صاحبي».