صفحات الثقافة

دمشق… الذاكرة


سعاد قطناني

بين الشك واليقين أستذكر قطرة ماء شربتها يوماً من صنبور صغير قرب الجامع الأموي… كانت المياه باردة عذبة في ذلك اليوم الصيفي حار…فلكأس الماء ذاك سحر يأخذك إلى ذات المكان مرارا وتكرارا….وأنا أعترف أني لم اشرب قطرة ماء فقط، فقد شربت حتى ارتويت من كل صنبور في حي صغير أو كبير في دمشق، وقرأت الفاتحة على أرواح كل الشيوخ والأبرار … بل وأكلت من تين دمشق وزيتونها…شبعت من خبزها وملحها، شربت من ماء وردها…. كبرت في أفيائها…لعبت في حاراتها، ومشيت في أحيائها…

دمشق… حقك علينا… سامحينا …

فأنت كل ما أنت، أنت الكبيرة الشامخة القوية الراسخة، أنت الحانية، الحنونة، الصامتة، الصارخة، أنت الوطن حين غابت الاوطان، أنت البيت الدافئ، الأهل والأخوة، الأحبة والأصدقاء والجيران…

أنت الشقاء والبقاء، أنت زحمة الشوارع الضيقة ليلة العيد، أنت صباحات فيروز التي لم تغب وهي تغني: ‘وطني يا جبل الغيم الأزرق’…. وفي الليل أنت العروس التي أبت إلا أن تتزين بأنوار قاسيون الشامخة… أنت أحلامنا في الدروب والطرقات الصغيرة… أنت رائحة البرتقال على عربات الباعة… وطعم التفاح في أوائل الشتاء…أنت زهرة النارنج تتلصص على البهاء والنور من خلف الجدران… أنت فتنة الياسمين وحزن الخزامى في الشوارع… أنت صياح الأولاد في الزقاق والحارات…. أنت دفء البيوت ورائحة الغسيل والمازوت والعدس…. أنت فضول الجيران… أنت مقاعد الدراسة ولهو الشباب… أنت الزمن الضائع من كل الأزمنة حين يطارد شابٌ صبيةً وكتاباً…

لا وقت للوقت هنا في دمشق…فالجميع يلهث لينهي نهارا طويلا لا ينتهي…. لا وقت للوقت هنا في دمشق، فالساعات تنتظر عاشقة على باب حارة دمشقية بلا حساب…. لا وقت للتفكير في الآتي، فبيت المونة يكفي لسبع وسبع وسبع سنين عجاف…. في دمشق يمتد الوطن من موقف الباص إلى البيت في رحلة تأخذك إلى الشوارع المقفرة إن عدت متأخراً ولا شيء يؤنس الليل سوى صوت حذائك ونباح كلب شارد أو قطة أفزعها اقترابك من حاوية القمامة….

بين الشك واليقين أحاول أن أستعيد الوجوه الواجمة والخائفة ذات نهار، يوم مات الرئيس حافظ الأسد، أحاول أن أستعيد صوت ذلك البائع الذي نهر زوجته حين أخبرته على الهاتف ‘الرئيس مات’، تناهى صوتها إلى مسمعي، صاح البائع على الهاتف وقد امتقع وجهه : ‘اخرسي، لا تخبصي وليه’. أغلق الهاتف على عجل، نظر في وجهي وحاول أن يعتذر عن شيء لم يفعله، حاول أن يهرب من عيوني الواجفة، وتمنى أن تبتلعه الأرض قبل أن أكون قد سمعت ما قيل على الهاتف من مكان ما في دمشق… تابعت سيري يومها في الشوارع المقفرة… وكأن حظراً للتجوال قد فرض في المدينة… لم يكن في ذلك الشارع سواي وبعض المارة ممن سمعوا بالخبر وهم في الطريق إلى منازلهم… كانت الوجوه كلها واجمة … تائهة… خائفة.. كان الناس يبدون وكأنهم يمشون وهم نيام في مدينة الضياع حين مات ‘الأخ الأكبر’…

الخوف ذئب جائع لا جوف له يبتلع كل الأمنيات والأحلام في دمشق… خوف يذكرني برواية جورج أورويل 1984 حين يصل بطل الرواية إلى اليقين الذي لا يراوده شك بأن الأخ الأكبر هو أفضل ما يمكن أن يكون لخير تلك البلاد، وحين يدرك البطل تلك الحقيقة بكافة جوارحه يمشي إلى حتفه راضياً، غاضباً لأنه تجرأ يوماً وفكر بأنه يمكن أن لا يحب الأخ الأكبر… ومن يجرؤ على أن لا يحب الأخ الأكبر ففي دمشق غدا شعار ‘منحبك’ تجاوزاً لكل خيالات أورويل.

أفيقي يا دمشق … أفيقي! ولتكسري أسوار خوفك يا دمشق ولتفتحي قلبك… كفى يا دمشق … تعانقين سجانك في الصباح … تضعين أحمر شفاه وترقصين رقصة الدراويش حباً في سجانك… تصطبغين بكل الألوان وتمعنين في لهوك وغيك … وما ان يحل المساء حتى تلبسي ثوبك الأسود الطويل وتجهشين بكاءً على أبنائك وبناتك على حائط قديم في حي ‘الميدان’…. كفى يا دمشق فهذا الرقص يجرحني ويوجعني… خذيني إلى كفيك وضميني في مساءاتي الحزينة وصباحاتي الجديدة…خذيني ثانية إليك يا دمشق … أبحث عن عينيك في كل المدن فلا أرى إلا ظلاً من ظلالك، أما أنت فلا أجدك… ابحث عن روحي التائهة على عتبات مقامات أوليائك الصالحين… أبحث عن شريطة خضراء تبارك يومي وتحفظ أولادي… أبحث عن جيراني فلا أجدهم … أتلقط أخبارهم من هنا وهناك… هل ما زالوا أحياء؟! .. هل ما زالوا هناك في حينا القديم؟!… هل سأرى جارنا ذات يوم مسجىً على الأرض ككل الشهداء!!! أم سأراه مزيناً كمهرج في حفلة تنكرية يرقص ويهتف ‘منحبك’!

أريد أن أعود قليلاً للوراء وأعيد ترتيب أيامي معك يا دمشق لأحبك أكثر… سأخفي ملامح الجلاد من مدرستي وصفي و كراستي… سأنسى أني هتفت باسمه رغماً عني كل صباح… سأرمي من ذاكرتي صور المخبرين والجواسيس في الصف والشارع والجامعة وعند بائع الملابس وفي موقف الباص والسينما وعلى مقعد تائه في حديقة…. سأنسى تلذذ ذلك المخبر بقراءة إسمي على الملأ مراراً حين جرح كبريائي في حافلة البلدة البعيدة… سأنسى ذل طفلة واقفة في الطوابير الطويلة لتأخذ ‘ربطة خبز’ لعائلة بحجم الكون…. سأنسى كل ذلك يا دمشق وأبقى وفية لقطرة ماء سقيتيني إياها عندما كنت عطشى ذات يوم…..

ولكن أفيقي !!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى