دمشق: القبضة الأمنيّة!
نديم الصالح
من دوّار كفر سوسة، حيث يقع جامع الرفاعي الذي خرجت منه أولى التظاهرات في العاصمة السوريّة دمشق، تبدو الحياة الطبيعية التي “يعشق” التلفزيون السوري تصويرها وبثها، طبيعيّة بالفعل. الحياة طبيعيّة لدرجة أن المصلّين الخارجين لتوّهم من الجامع يتجمعون أمام “بسطات” الخضروات والفواكه المتواجدة عند باب الجامع. لكنّ ما “خسره” الدوّار، الذي يحتلّ مبنى جريدة الثورة الحكومية قوساً عريضاً منه، لناحيّة مساهمته في الانتفاضة السوريّة، تم تعويضه بخطبة، وصفت بالناريّة، للشيخ أسامة الرفاعي خطيب الجامع.
صمت صوت التظاهر في دوار كفرسوسة وجامع الرفاعي، لكن الصوت الذي لعلع في فضاء حي الميدان الدمشقي العريق جاء ليعوّض عن الغياب النسبي. التردّد الذي عاشه متظاهرو الميدان حين خروجهم من باب الجامع جاء نتيجة الطوق الأمني و”الشعبي الموالي” الذي ضرب حوله، لكن هذا لم يمنع المتظاهرين الدمشقيين من ترديد الشعار الأبرز للثورات العربيّة المتلاحقة: الشعب يريد إسقاط النظام.
لم يطل الأمر. تمّ تفريق المظاهرة بالقوة، من دون الكثير من الاحتكاكات، ليحتل الشباب الموالون المنطقة، بدءاً من مبنى الجامع، وعلى امتداد المحلّق الجنوبي باتجاه حي الزاهرة. خليط من سيارات فارهة يقودها شباب في مقتبل العمر، ومجموعات من العناصر الأمنيّة، والكثير من الشباب الذي تبدو عليهم بوضوح آثار “قسوة الحياة”. هؤلاء لا سيارات لديهم، يتمّ تكديسهم في حافلات النقل الصغيرة، ليهتفوا، تحت جسر المحلّق الجنوبي: “أبو حافظ”. لم ترقَ قوّة صوتهم إلى قوّة صوت المتظاهرين الذين كانوا يهتفون لإسقاط النظام إلاّ لسبب واحد: الصدى الذي يصنعه الفضاء السفلي للجسر. فضّل هؤلاء الاجتماع والهتاف في فيء الجسر الممتد، في حين لم يكن لأولئك سوى الهتاف تحت الشمس. لكنّ ما صنع الفرق بالفعل هو المصوّر الذي كان يعتلي سطح مبنى أحد مخافر شرطة المنطقة: صوّر “أصحاب الفيء” وتجاهل “أصحاب الشمس”!
لم يكن متظاهرو الميدان الوحيدين في العاصمة. كان حيّ “ركن الدين” ذي الغالبيّة الكرديّة، وكذلك القابون والقدم، قد أدلوا بدلوهم في الجمعة التي لم يفسد اختلاف المعارضين على تسميتها بجمعة العشائر ودّاً في قضيتهم المشتركة: النضال في سبيل الحريّة.. وإسقاط النظام! ولأنّ الشعار الأخطر قد انتشر في أحياء دمشقيّة مختلفة، لم ترَ السلطة حلّاً آخر غير ذلك الذي اعتمدته: القمع. في دوّار العباسيين يطلّ العابر بنظره على داخل ملعب العباسيين الدولي فيرى أناسا يفترشون أرضيّة الملعب الخضراء. يقيمون هناك، يأكلون ويشربون وينامون. وفي الطريق نحو منطقة “جوبر” سوف تتمركز باصات نقل داخلي يترجل منها مئات العناصر الأمنيّة، هذا بالإضافة إلى عناصر من الجيش، بعرباتهم العسكرية وبـ”روسياتهم” الحاضرة على أكفهم تحسّباً لأي “مندس” أو “سلفي” أو “إرهابي” أو “خائن”.
بعبارة أخرى تحسباً لـ “السوري” المطالب بالحريّة!
حماة: أين “العصابات المسلّحة”؟
حماة، جرح غائر في الذاكرة الوطنيّة السوريّة. لم يتعاطف الشعب السوري بعمومه مع “المقاتلين” من أبناء المدينة، أولئك الذين حملوا السلاح في وجه “إخوتهم” في الوطن، كوسيلة للتغيير، في ثمانينات القرن الماضي. أسّس عموم السوريين لمسافة فاصلة عن الحراك الإخواني، لكن الثلاثين ألف ضحية وآلاف المعتقلين والمفقودين، هذا بالإضافة إلى سحق المدينة، ابتلعت الخلاف السياسي والاختلاف الجذري بشأن الوسائل ليُحل محلّه تعاطف فوق وطني: إنساني وأخلاقي محض!
حماة لا تحتمل. كل شهيد يسقط فيها ينعش ذاكرة مليئة بالجروح. وما جرى في حماة في جمعة حمزة الخطيب، لم يكن أكثر من رشّ للملح على الجرح! ربما لهذا كلّه، وربما لأسباب أخرى، رفع تمثال للرئيس السوري الراحل من إحدى ساحاتها، في محاولة من السلطة لترميم ذاكرة المدينة، لم يتواجد عنصر أمنيّ واحد في المدينة التي شهدت التظاهرة الأضخم في”جمعة العشائر”. مئة ألف، مئتان، أربعمئة ألف، لا دقّة في عدد المتظاهرين، لكن تجمعّهم المهيب ومبلغ السبعين ألف ليرة سورية الذي دفع ثمناً لعشرات الآلاف من “ورود السلميّة”، هذا بالإضافة للهتافات المنادية بالوحدة الوطنية كانت تقول أشياءً كثيرة: المدينة الجريحة لن تتراجع في طلب الحريّة، المدينة تجاوزت صوت التطرف الثمانيني وربما أيضاً رغبتها في فتح حساب قديم، المدينة خاليّة من كل أنواع الـ”المتآمرين” على النظام، فالصورة أصبحت واضحة في حماة كما في غيرها من المناطق السوريّة: لا وجود لعناصر أمن، يعني لا قتل ولا دم ولا إذلال!
إدلب: لماذا إدلب؟
المدينة هادئة، من ينقل لك أخبارها لا ينفك يردد على أذنك كلمة “رايقة”. المدينة المحافظة “رايقة” إذاً. لكن ماذا عن ريفها؟ “جسر الشغور” ومدينة المعرّي “معرة النعمان” و”خان شيخون” تحديداً؟ ماذا عن الأحاديث المتواترة عن إحراق المحاصيل الزراعيّة وإفناء المواشي؟
إعلام النظام يتهم “العصابات المسلحة الإرهابية”. الإعلام البديل: شبكات التواصل الاجتماعي، الناشطون، شهود العيان، أبناء المنطقة، يتحدثون عن انشقاقات ضخمة في صفوف عناصر الأجهزة الأمنيّة وقوات الجيش. لا يميل المرء إلى تصديق الرواية “غير الرسميّة” إلاّ لسبب واحد: الانشقاقات التي كانت تدور أخبارها على ألسنة السوريين على شكل إشاعات أصبحت اليوم حقيقة، لا تدلّ عليها مقاطع الفيديو التي يظهر فيها ضباط وعناصر أمن معلنين انشقاقهم فحسب، بل يمكن استشعارها من دشم عسكرية وحراسة مشددة لبعض المناطق الحسّاسة جداً والبعيدة جداً عن بؤر الاحتجاجات!
ولكن لماذا “جسر الشغور” و”معرة النعمان” وغيرها الكثير من قرى مدينة الزيتون؟
ربما، وربما فحسب، لأنّ المتظاهرين هناك لا يريدون “للمأساة الدرعاوية” التي تتوالى فصولها تكشّفاً، أن تتكرر في قراهم. ربما، وربما فحسب، لأن الجسر وخان شيخون وغيرها من قرى المحافظة كان لها نصيبها من “مأساة الثمانينات”، وهي تجد اليوم أن اللحظة قد حانت لـ”رد الصاع”. ولكن أيضاً ربما، ربما فحسب، أن “السلميّة” بالنسبة لهم تكتسب معنى آخر ينسجم والسياق الذي يتحرك فيه الخيار الأمني للنظام السوري: سلميتنا تنتهي عند باب البيت دفاعاً عن النفس.. والشرف!