دمشق امتحان الإصلاح السياسي
عبد الإله بلقزيز
منذ انطلقت حركة المظاهرات في سوريا، منذ نحو شهرين ونصف، تتحدث الأوساط السياسية الرسمية والإعلامية، عن مؤامرات خارجية تحاك ضد البلد والنظام، رداً على دعمه للمقاومة ومواقفه من التسوية، وان ما يجري فيها من مظاهرات إنما هو مُدار من خارج وتركبه جماعات العنف في الداخل لضرب الأمن والنظام والاستقرار، وان الضغط على سوريا لحملها على إجراء الإصلاحات لا يلحظ هذا البعد الخارجي التآمري في ما يجري.
هذه رواية تدحضها خطب الرئيس بشار الأسد وقراراته أثناء الأحداث، منذ خطابه في مجلس الشعب حتى اليوم. فهي لا تعترف فقط بوجود مطالب إصلاحية لدى المتظاهرين فحسب، ولا تُقر بمشروعية تلك المطالب فحسب، وإنما أيضاً تتصرف معها ببعض أشكال الاستجابة: أيا يكن موقف المعارضين من مستوى تلك الاستجابة أو سقفها أو مضمونها. فان يقع إقرار الحق القانوني في التظاهر، وإلغاء قانون الطوارئ، وحل الحكومة السابقة وتشكيل أخرى جديدة، والحديث عن إعادة النظر في المادة الثامنة من الدستور المتعلقة بقيادة «حزب البعث» للمجتمع والدولة، والدعوة إلى حوار وطني… الخ، (ان يقع ذلك) لا يعني سوى أن رواية المؤامرة ضعيفة الحبكة من جهة، وأن النظام السياسي السوري يدرك طبيعة الأزمة السياسية في البلاد ومركزية مطلب الإصلاح فيها، ويتصرف على هذا المقتضى وإن بحذر وتردد ملحوظين.
على أنه إذا سلّمنا بأن في الرواية تلك بعضاً من الصحة، وأن القوى الخارجية المعادية تكيد لسورية وتتربص بها، فإن الرد السليم على هذا التآمر لا يكون بأدوات الأمن، بل بأدوات السياسة. والمستفاد من هذا أن على سوريا في مثل هذه الحال، كفاً للتدخل الأجنبي وقطعاً لدابره وحرماناً له من الاستثمار في أوضاعها الداخلية، أن تُطلق برنامجاً شاملا ومتكاملا للإصلاحات يُخرس الألسن الخارجية، ويُطمئن النفوس في الداخل، ويعزل المندسين والخائضين في الماء العكر. وحينها فقط لن يعود ثمة من أثر للتدخل الخارجي في أمن البلد واستقراره، ولن يبقى لمتظاهر من مبرر للتظاهر إن أجيبت مطالبه في الحرية ومحاربة الفساد.
وما أغنانا عن القول إن مثل هذا الخيار السياسي سيكون جزيل الفوائد على المجتمع والدولة في سوريا. على المجتمع لأن الشعب السوري يستحق الحرية وحقوق المواطنة الكاملة أُسوة بغيره من الشعوب، خاصة وأنه تحمّل الكثير في سبيل القضية الوطنية والقومية: من رغيف الخبز حتى الحقوق المدنية والسياسية. وعلى الدولة لأنها ستكون بالديموقراطية والحرية أقوى مما هي عليه اليوم في مواجهة الضغوط الدولية والصهيونية، وستتمتع فيها السلطة بشرعية إضافية توفر لها حزام أمان شعبي ومجتمعي لا توفره أجهزة الأمن، وستصنع الاقتران الغائب حتى اليوم بين المسألة الوطنية والمسألة الديموقراطية فلا يقع ـ مرة أخرى ـ مقايضة الواحدة منهما بالأخرى. الشيء الوحيد الذي ستخسره سوريا إن أقدمت على هذا الخيار السياسي الإصلاحي هو متاعبها مع الضغط وعدم الاستقرار التي هي في غنى عنها.
في وسع أبناء الشعب السوري أن يرفعوا ما شاؤوا من الشعارات في حركاتهم الاحتجاجية، فذلك من صميم حقوقهم كمواطنين. لكني أحيل من جهتي إلى الظن ان الشعار الأنسب لظروف سوريا هو الإصلاح السياسي، وأن الشعارات والمطالب القصووية لن تشق لنفسها طريقاً للتحقق، وقد تنتهي حتى بالمطالب الإصلاحية إلى الاصطدام بالحائط. ويحملني على هذا الظن اعتقادي بأن المطالب الراديكالية، التي تذهب إلى الإفصاح عن الرغبة في تغيير نظام الحكم، لا تملك الحامل الاجتماعي الداخلي الذي يُسعفها بالتحقق، ولا يسمح لها ميزان القوى الداخلي بذلك. وإلى هذا فإن إمكانيات الإصلاح السياسي مفتوحة في سوريا اليوم من البابين: الشارع (والمعارضة) والسلطة، ومن الخطأ إغلاقها تحت وطأة إغراء أحلام أخرى أكبر تنوء بحملها أوضاع البلد وتوازنات القوى فيه.
لا بد، إذن، من مشروع سياسي وطني يكسر هذه الحلقة المفرغة وينأى بسوريا عن خيارين سياسيين خاطئين وغير مأموني العواقب: خيار المواجهة الأمنية للمتظاهرين، وخيار الدعوة إلى إسقاط النظام، فهما خياران متحالفان موضوعياً في الذهاب بسوريا إلى المجهول. والمشروع الوطني الذي نقصد هو مشروع الإصلاح السياسي الذي هو من مسؤولية النظام والمعارضة على السواء، اللذين ينبغي أن يكونا شريكين في إنتاجه من طريق حوار وطني صادق وجوهري. علائم هذا المشروع والاجراءات التي تنتمي إلى سياقه باتت اليوم في حكم المعلن، وبعضها تحقق مثل إلغاء قانون الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ولم يبق إلا استكمالها بقرارات أخرى شجاعة من طريق الحوار الوطني. بقي أن نقول إن أي تأخير في ورشة الإصلاح يقود إلى تعقيد الأزمة السياسية الداخلية ويمنح مزيداً من الوقت لمن لا يهمهم إصلاح الأوضاع في سوريا وإنما استغلال تلك الأوضاع لمآرب أخرى.
السفير