دمشق في ربع الساعة الأخير
فواز حداد
لا تتميز دمشق عن غيرها من المدن السورية، فهي ليست الأفضل ولا الأجمل، على الرغم مما أُسبغ عليها من المديح الزائد والزائف. إن حياتها وحياة سكانها مرتبطة بحياة وعمل سكان المدن الأخرى، لاسيما بلدات الأرياف المحيطة بها. وإذا امتازت بتاريخها، فالفضل للعهود المسيحية والإسلامية وما قبلهما، أما رمزيتها كعاصمة للدولة، فهذا ما أملته اعتبارات سياسية. وأن تكون مدينة الياسمين فهبة الياسمين نفسه، آزرها صنيع الشعراء. الجانب الأسود في تاريخها كان في الكثير من محطاته فريسة الغزاة والمغامرين والعسكر.
تجمعت في داخل دمشق أديان وطوائف وأعراق ومذاهب شتى. لم تغلق أبوابها في وجه أحد، ولم تكن يوماً ملكاً لأهلها، بل لساكنيها، ومعهم الذين يأتون إليها ربما عابرين، فيقيمون فيها. ومع الزمن يصبحون أهلها. هكذا هي.
حالها اليوم، كما لم نعرفها من قبل، مدينة منهكة، ليست حصينة ولا منيعة، الحرب على أبوابها، القنابل تهبط عليها، قد تسقط على زقاق أو بناء سكني أو مستشفى أو مبنى حكومي، والفاعل مجهول. مقطعة الأوصال بعشرات الحواجز، شوارعها الرئيسة انتشرت فيها العوارض الإسمنتية وأكياس الرمل، وأقيمت الاستحكامات أمام الأبنية الرسمية. الجنود بملابس الميدان الكاملة، الدبابات على مداخلها، سيارات الزيل تنهب الأرض ممتلئة بالجنود يرفعون أيديهم بإشارات النصر، ناقلات حاملات دبابات تعبر الأوتوستراد. باصات تحمل شبيحة يهتفون: “بالروح بالدم”، طائرات الهيلكوبتر ترى واضحة بالعين المجردة تحلق فوق جوبر أو حرستا أو القابون… تطلق صلياها عن بعد ومن ارتفاعات منخفضة، فيتصاعد الدخان في الفضاء. راجمات الصواريخ لا تكف عن القصف، القناصة فوق أسطحة الأبنية العالية… على أطرافها في الطرق الفرعية، قد تصادفنا جثث ملقاة على الأرض. النازحون يأتون إليها من المدن والأرياف المنكوبة، نساء ورجال وأطفال، يحملون القليل من الأمتعة باحثين عن ملجأ أو مأوى. لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من حديقة أو ملعب أو مدرسة أو رصيف، وقد يصادفهم الحظ فيجدون من يقدم لهم طعاماً من الجمعيات الخيرية وفاعلي الخير، إن لم تسرع فرق الشبان المتطوعين المتوزعين بين العدوي والمزة والمخيم إلى مساعدتهم وتوزيع الإعانات عليهم: ملابس، طعام، حليب للأطفال، مواد طبية إسعافيه.
صباحاً في الأسواق، يسارع الأهالي لشراء لوازمهم، ويكتفون بالقليل، الأسعار في ارتفاع جنوني. الشوارع مغلقة أمام السيارات، خاصة تلك التي تمرّ إلى جوار مقرّ أمني أو حكومي. الاختناقات المرورية تسهم فيها كثرة الحواجز. صفوف طويلة من الشبان والرجال أمام أفران الخبز ومراكز توزيع قوارير الغاز. في الحارات تكومت النفايات. أرتال من السيارات عند محطات الوقود. موظفو الدولة يغادرون مراكز عملهم قبل انتهاء الدوام الرسمي. شوارع دمشق الرئيسة: الصالحية، البحصة، الحمراء، باب توما، القصّاع، الجسر الأبيض… تخلو من المارة في الساعة السادسة مساء. المقاهي خالية من الزبائن، مواقف الباصات تحت الجسر فارغة. أما في الليل، كما في النهار، الأهالي تحت رحمة عدم انتظام الكهرباء وانقطاعاتها.
جاء دور دمشق، وجاء دور هجرة سكانها. ارتفع منسوب الخارجين منها إلى الدول المجاورة. على أرضها ستحسم معركة سورية. النظام الذي حكمها أربعة عقود، وعد أنه سيدافع عنها. بينما جنود النظام توعدوا: الأسد أو نحرق البلد. هل هناك خلاف بينهما أم تنسيق؟ منذ بدء الأزمة السورية، النظام يتكلم بشيء وما يفعله جنوده على الأرض شيء آخر. إذا كان سيدافع عنها كما دافع جنوده وشبيحته عن حمص وحلب ودرعا، فدمشق موعودة بالخراب.
لسنا في محضر تأبين دمشق المتوقع، ولا في استثنائها من الدمار المتوقع أيضاً. وإنما الرثاء لنظام كانت اختياراته كارثية. لو أنه استمع لصوت شعبه، لكان تجنب هذه الثورة ممكناً، ولوفر على سورية أكثر من مائة ألف ضحية، ولما مزق المجتمع وزرع الأحقاد فيه.
هذه دمشق في الربع ساعة الأخيرة، لكنها قد تتمدد إلى أرباع ساعات أخرى، تتجدد من حين لآخر. ما دام هناك من وجد الحل في تدميرها.
المدن