دمشق وتصدير الأزمة الى الخارج
عبدالوهاب بدرخان *
بعد جمعة «المجلس يمثلني» والشرعية التي منحتها «تنسيقيات الثورة» للمجلس الوطني السوري، قد تكون ارتسمت الذريعة التي انتظرها النظام للانتقال الى لعب أوراقه الاقليمية والسعي الى التوتير تصديراً لأزمته في الخارج واستدراجاً للقوى الدولية كي توقف ما يعتقد ويقول إنها «مؤامرة» تديرها هذه القوى ضدّه.
شكل اغتيال المعارض الكردي مشعل تمّو ايذاناً باستهداف جميع أعضاء المجلس الوطني. وكشفت ردود فعل النظام، بما فيها تهديد وليد المعلم بإجراءات صارمة ضد الدول التي تعترف بالمجلس، أن المعارضة استطاعت أخيراً أن توفر للمجتمع الدولي اطاراً يمكن الاستناد اليه والعمل معه سواء في مجال «تأمين الحماية للمدنيين» أو لتقديم المساعدة في جهوده من أجل تفكيك النظام تمهيداً لإسقاطه.
ليس في ذلك أي «مؤامرة» وانما تطوّر طبيعي لانتفاضة بدأت في الداخل ولا تزال في الداخل وكان لأخطاء النظام (وقد اعترف بها) الدور الأكبر في تأجيجها. لا أحد في المجلس أو خارجه يعتقد أن المهمة سهلة، لكن السلطة ذهبت بعيداً وتستعد للذهاب أبعد في استخدام العنف اللاانساني وكان لا بدّ من الردّ عليها إن لم يكن لردعها فأقلّه لموازنة غلوّها.
مرّة جديدة اغتنم الرئيس السوري لقاء مع زوار من الخارج ليكرر ان لدى النظام خطة لاصلاحات سياسية. قال ذلك منذ منتصف نيسان (ابريل)، بعد مرور شهر على الانتفاضة في محاضرته شبه الأكاديمية لأعضاء الحكومة الجديدة، ثم في خطاب الجامعة بنهاية حزيران (يونيو) لإعلان إجراء «حوار وطني»، وكان آخر من سمعوا منه عن «الاصلاحات» على التوالي الامين العام للجامعة العربية فالموفد الروسي فوفد البرازيل والهند وجنوب افريقيا (أعضاء في مجلس الأمن) ثم أخيراً وفد الدول الخمس الأميركية اللاتينية فضلاً عن السياسيين اللبنانيين الذين استدعوا الى دمشق… ومع ذلك لم يرَ أحد أثراً لأي اصلاحات. أصبح معروفاً أن أولوية النظام كسر الانتفاضة واخمادها نهائياً ليرى بعدئذ بأي اصلاحات يبدأ. وعلى رغم أن حلفاء وأصدقاء، ومعارضين في الداخل منهم حسن عبد العظيم في تصريح قبل أيام، ذكّروه بأولوية وقف القتل وسحب الجيش والأمن وميليشيات «الشبيحة» من الشارع، إلا أنه منذ اليوم الأول يخشى التظاهرات السلمية ويعتبرها أكثر عدوانية من «العصابات المسلحة»، ولعله رأى أخيراً في ظهور أسلحة مع أفراد تطوراً «مريحاً» يدعم رواية «العصابات» التي لم تجد من يصدّقها مثلها مثل رواية «الاصلاحات».
من الواضح أن النظام السوري استطاع حتى الآن أن يستقوي بعدم وجود اطار كـ «المجلس الوطني» يمثل المعارضة، لذلك سيسعى بكل الوسائل وبالأخص الاغتيالات لتقويض هذا المجلس ونشاطه. لكنه، قبل ذلك، حصل على دعم حيوي من خلال تعذّر الاجماع داخل الجامعة العربية على اعتماد اجراءات ضدّه، إسوة بما حصل مع ليبيا، علماً أنه لم يُطرح عربياً أي توجه لتسهيل تدخل دولي عسكري أو غير عسكري. لكن مع وجود المجلس الوطني، واحتمال اعتراف دول عربية به، يمكن اختبار الجامعة في مسألة محددة هي حماية المدنيين، واذا تخاذلت فإنها ستعرّض شرعيتها لمجازفة تاريخية، اذ تحمي نظاماً بات موصوماً عالمياً بعار قتله شعبه. وكان اللاقرار واللاموقف العربيان شكّلا قاعدة لـ «الممانعة» الروسية – الصينية، بالاضافة طبعاً الى خسائر موسكو وبكين من سقوط نظام القذافي. وهكذا أعطى «الفيتو» المزدوج نظام دمشق دفعة استقواء أنعشته في عزلته الدولية. أصبح موقناً بأن «صموده» هو الذي يمكن روسيا والصين من التأسيس لـ «نظام دولي جديد» قائم على أنقاض نظام قديم هيمنت عليه سياسات الغرب. أي أنه لم يعد يواجه محتجّين بسطاء عزّلاً في حمص وحماة وادلب وريف العاصمة لا يكلّفونه أكثر من بضع رصاصات تُطلق على رؤوسهم وانما يتحدّى الولايات المتحدة واوروبا اللتين نسجتا «المؤامرة» عليه بسبب سياسته الممانعة والداعمة للمقاومة، كما يقول.
على قاعدة هذا الاستقواء المتجدد، والتغطية الدولية التي تؤمنها دولتان كبريان ومجموعة دول الاقتصادات الناشئة والدول النيو-يسارية في اميركا اللاتينية، واللاموقف العربي، أصبح في امكان النظام السوري أن ينتقل الى المرحلة التالية من أزمته، وكأنه اجتاز الأولى بنجاح، بدليل أنه جرى تعطيل مجلس الأمن الدولي تحديداً بعدما أهرق كل هذا الدم وارتكب كل هذه الفظاعات من دون أن تصاب «آلة القتل» بأي أضرار جسيمة أو معطِّلة. الى التصعيد، اذاً، للانتهاء من هذه الانتفاضة، بالقتل كما دائماً، ودائماً بالحديث عن اصلاحات آتية.
يعتقد النظام أنه استطاع أن يقضي على «أداة المؤامرة»، أي على الشعب، بعدما نشر قواه في طول البلاد وعرضها لتكون جاهزة للقتل. وبالتالي فما عليه الآن سوى أن يستدير الى رأس «المؤامرة» ليجهز عليه. الى الاقليم، اذاً، فثمة بعض الأوراق التي لم يستخدمها بعد، ثمة الحلف مع ايران الذي آن أوان تفعيله وترسانة «حزب الله» في لبنان التي لم تكدّس أسلحتها وصواريخها من أجل ايران فحسب بل أيضاً لخدمة سورية النظام. وفجأة تخرج التسريبات من طهران عما قاله الرئيس السوري لوزير الخارجية التركي في لقائهما الأخير، اذ هدد بإشعال المنطقة بهجوم ثلاثي على اسرائيل. وجاءت الصيغة مشابهة تماماً للتهديد الذي أسمعه للراحل رفيق الحريري في لقائهما الأخير قبل ستة شهور من الاغتيال المدوّي. ثم يصدر، بالتزامن، تهديد ايراني بالردّ على أي عقوبات أو تحركات تركية بـ «تأزيم» ثلاثي أيضاً تشارك فيه سورية وايران والعراق، ما يعني ضمناً اشعال المسألة الكردية. ويترافق ذلك مع سعي ايراني الى تحريك البيئة الشيعية في دول الخليج اذا استشعرت طهران أنها على وشك أن تخسر دعامتها الاستراتيجية الكبرى في سورية.
بمعزل عن احتمالات الاقدام على هذه التهديدات – خلال ست ساعات! – اذا كان هدفها فعلاً تأمين حد أدنى من استراتيجية البقاء للنظام السوري، كذلك بمعزل عن استجابات ايران و «حزب الله» اللذين قد يفضلان ادارة خسارتهما على نحو مختلف، تشي تهديدات كهذه ببلوغ النظام حالاً شمشونية لا تتناسب مع الثقة البالغة التي يظهرها، فهو يهدد ليحمل الأطراف الاقليمية والدولية على المسارعة الى انقاذه قبل أن يغرق. لكن فاته أنها كانت، بل لعلها لا تزال، راغبة جميعاً في مساعدته لو أوقف القتل والترهيب وطرح اصلاحات حقيقية وباشر قيادة عملية الاصلاح، وأساساً كانت هذه الشروط لمصلحته أولاً قبل أن تكون لمساندة الشعب في انتفاضته. ولا يقول الروس حالياً شيئاً آخر، إلا أنهم زادوا اشتراط عدم التدخل لكنهم يريدونه أن يبادر الى أي شيء لئلا يبدون سلبيين فقط، خصوصاً أنهم والصينيين ضمنوا لتوّهم خسارة الشعب السوري الذي لن ينسى دعمهم إراقة دمه.
لعل دمشق وطهران أرادتا بهذه التهديدات ابلاغ من يلزم الى أي حدّ يمكن أن تمضيا لضمان بقاء النظام، ولا شيء يضمن ذلك حقاً، لكنهما أكدتا في الوقت نفسه الى أي حد بات هذا النظام عاجزاً عن التعامل مع الوضع الداخلي. فأي دولة هذه التي تُغرق جيشها وأمنها في حرب داخلية ضد شعبها ثم تخطط لتوريطه في حرب خارجية تريد أن تخرج منها منتصرة وظافرة بهذا النظام نفسه على رأسها؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة