دورات “التدخل الخارجي” التي لا يبدو كسرها قريباً/ دلال البزري
ما زلنا عالقين في حلقة التدخل الخارجي، منذ إستقلالنا عن العثمانيين بفضل دعم الغرب الإستعماري الصاعد، ثم انتقالنا الى الإستقلال من هذا الغرب نفسه بفضل دعم الكتلة السوفياتية التي تركت أشرس مخالبها في عقولنا قبل قرارنا. والآن، نحن رهن وجهة التدخل الخارجي، لتتبين لنا ملامح مصيرنا القريب… وقد نكون هكذا طوال تاريخنا، بين وثبات تغييرية لا تتحقق إلا بدفع قوي من غيرنا، باستثناء ربما الوثبة المحمدية، وكان الأحرى تسميتها المعجزة المحمدية.
تشبه دورة التدخل الخارجي هذه الدورات الخلدونية الحتمية التي لا سبيل الى تجنّبها. كان إبن خلدون ينظر الى تاريخ أمته بصفته يدور في إطار دولاب لا يخرج عن إطاره، ويقوم على شظف بادية وعصبية تطيح بواحدة أخرى أضعفها فساد السلطة وغنائمها في الحضر، فتعتلي العصبية المنافسة العرش لتعود فتغرق في بحر ميوعته، فتكون في هذه الأثناء عصبية أخرى في الطور النهائي من شدة عصبيتها، فتسقطها… وهكذا الى ان يقرر الله مصيراً أشد حتمية.
نحن الآن في السلسلة الأخيرة من “التدخل الخارجي” بقضايانا. ويمكنك تلسمها في الديناميكيات التي شاركت في إطلاقها أو في التصدي لها بعناصر خارجية فاعلة، نالت نصيباً وافراً من النقد والرفض والتشهير.
خذْ سوريا الآن مثلاً: الصراع بين النظام والمتمرّدين عليه يقوم على دعائم خارجية صلبة. من جهة تدخل خارجي مع النظام معلن وخفي في آن، ديبلوماسي وعسكري ولوجستيي وسياسي، دعم من كل الأشكال والألوان، من دول وأطراف متفاوتة القوة، كلها مهمومة بما سوف تجنيه من هذا الدعم، من موقع قَدَم أو تأثير على القرار أو توجيهه بما يطابق مصالحها الخ. يهيمن على هذه الكتلة المتدخلة لحساب بشار الأسد دول أقوى من غيرها، روسيا إيران الصين، متنوعة المصالح، ولكنها ملتقية حول بشار بصفته ورقة رابحة من أوراق الهيمنة على المنطقة وتقرير مصيرها. قشرة رقيقة هي التي تحاول ان تتدثر بها هذه الكتلة الخارجية الراسمة لسياسة بشار الأسد. ماذا يقولون؟ ما هي حجتهم؟ انهم في حرب مع التكفير والإرهاب. هذه كل ذخيرتهم النظرية، مهما تبدّلت ألفاظهم. أما الباقي، فمنطق القوة الصرفة، هي التي تمدّ بشار بمزيد من خناجر الموت والدمار.
مقابل هذا الضعف المعنوي، تجد المعارضة قد تبدّلت منذ انطلاقتها، عندما كانت لاءآتها الثلاثة تضم رفض التدخل الخارجي؛ وحتى هذه اللحظة، حيث أصبح التدخل مفصل رئيسي من مفاصل سيرة هذه الثورة. كان حتمياً هذا التدخل، أو هكذا يبدو لنا الآن. الثورة ضد بشار كانت أيضا ثورة على التدخل الخارجي في بلاده وقد حوّلها الى ثكنة “مقاومة” بالباطن، مع كل ما يترتب على هذه “الوظيفة” من تدمير منهجي لها ولناسها. فكان من النتائج المنطقية لهذه الوضعية أن تخرق الثورة واحدة من لاءاتها، وتتفاعل مع التدخل الخارجي بايجابية، أو “تنحرف” اليها، كما انحرفت، بحسب تعبير أحدهم، عن لاءاتها الاثنتَين الأخريَين، أي التطْييف والعسكرة. بل ربما كان هذا التدخل المسمّى “دعماً”، مرسوماً منذ بدايتها. ولسان حالها يقول بأن نجاح هذه الثورة مرهون بالدعم الخارجي، كما ان اخفاقها مرهون أيضاً بعدمه. أما الدول المتدخلة، فبضعها ديموقراطي النظام، وبعضها الآخر غير ديموقراطي. أي بمعنى آخر، أن الأولى تبدو وكأنها متناسقة مع نفسها، فيما الأخرى في وضع عجيب بعض الشيء. ولكن المجموعتان من الدول تدخلتا أيضا تبعاً لما تريانه انه مصالحها. وهنا تقع إحدى نتائج المفارقة العظيمة: ان المجموعة الأولى الأكثر ديموقراطية وإنسانية أهتزّ، أو تخلْخل دعمها، أو تراجعت عن وعودها، أو جزّأتها، بعدما رأت تعارضاً بين دعم الثورة وبين مصالحها. فيما بدتْ الدول الأقل ديموقراطية أكثر تمسّكاً بشعار الثورة الأول، وهو إسقاط بشار. هذا التميز قد يطول وقد يقصر، لكن الواضح للعيان، ان تدخل المجموعة غير الديموقراطية (بعد الديموقراطية) في الثورة السورية ليس من أجل الديموقراطية، إنما من اجل الأسْلمة والتمذهب؛ من أجل مصالحها المعنوية، ولكن الإستراتيجية أيضا، أو على الأقل كما يراها القيمون على شؤونها (لتبيان مدى “الشغف” بالشعب السوري، من كلا المجموعتين المتدخلتين، أنظر كيف عومل السوريون الذين يحاولون الهرب اليها من جحيم النيران في بلادهم: تريد ان تتدخل بـ”نظافة”، من دون أن تتلقي أية شظية من شظايا تلك الحرب التي تموّلها وتدعمها).
هل كان يمكن للثورة السورية أن تحافظ على لاءاتها الثلاث الأولى؟ هل كان يمكن ان تخلّ بـ”لا” واحدة من دون الإخلال بالـ”لا” الثانية والثالثة؟ الأرجح ان التدخل الخارجي لم يكن ممكناً له أن يحصل من دون تطييف الثورة، أو تمذهبها، ومن دون عسْكرتها. التدخل الخارجي هو الذي مدّ التطييف والعسكرة بالحياة والمال والممرات، لبشار الأسد، كما للمتمردين عليه. هل يمكن ان نتخيل هذه الثورة عليه حاصلة ضمن حدود مغلقة على الجميع؟ مجرّد تخيّل، لقياس المفارقة العظيمة التي ما زالت تلاحقنا منذ وعينا بأننا في عصر جديد، واننا أصحاب حق نطمح اليه بالكثير من جوارحنا. فنحن محكومون بأنظمة تم التدخل بها منذ نشأة كيانها. ونحتاج، بالتالي، الى تدخل خارجي أيضا بغية الخلاص من هذه الأنظمة التي يتم التدخل بها، فنعلقْ…
في اللحظة التي أُبرم فيها الإتفاق الأميركي الروسي لإزالة الكيميائي السوري، كان بشار منتشياً بـ”نصر”، هو في الواقع ترسيخ لأكثر التدخلات الخارجية عمقاً في بلاده، أكثرها تحريماً. انها لمفارقة دراماتيكية أخرى، مأساوية… وهي قد توجد تفسيراً منطقيا لإستقبال الغزوات الخارجية بالزغاريد والإبتهاج (من يتذكر إستقبال أهالي الجنوب اللبناني لطلائع الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، بعدما يئسوا من “حكم” السلاح الفلسطيني؟)… مفارقة من صميم طبائعنا السياسية، والتي لم يتمكن منها، ومؤقتاً دائماً، سوى أصحاب القوة السافرة، ذوي العصبيات المسنّنة. ولكن لنا بها نصيب قوي، نحن العرب، أكثر من غيرنا من الشعوب الكبرى. وهي قد تكون واحدة من ثوابت تاريخنا ما بعد المحمدي.
أين الخلَل إذن؟ ما الذي يحوّل مشروع حرية الى مشروع انتقاص المزيد من هذه الحرية، القليلة أصلاً؟ أو بمزيد من القيود على تقرير مصيرنا وأشكال ومعايير تعاملنا مع أنفسنا، مع الآخرين، ومع الخارج؟
الجواب تجده في مجالات، تحتاج الى من يسْبر أغوارها. وهي كلها مجالات قوة متنوعة الأشكال. أولها، تلك القدرة الخارقة، هبة من هبات تاريخنا، على ان ننقسم ونتشظى بالقدر المحموم الذي نعرفه. بداهة ان قوتنا في وحدتنا؛ ليس الوحدة البعثية القومجية، مولّدة التشظيات على أنواعها، ومعها إذعان في الصمت أو السجون… إنما تلك الوحدة التي يمليها قانون الإستمرار على قيد الحياة، أكثر القوانين فطريةً.
هل من حاجة لتلاوة أنواع التشرذمات؟ داخل الأطر “الحديثة” و”التقليدية” على حد سواء؟ من الطائفة الى الحزب الى الشلة المغلقة، وحتى شبكات التواصل العنكبوتية، الجديدة…؟
هبة ثانية من التاريخ، وهي قاعدة ضعفنا، إلا في عهدنا الأمبراطوري القصير: تلك القدرة العجيبة على عدم الإنتاج. لسنا أقوياء، لسنا قادرين على فرض حقنا بالعيش الطبيعي الكريم، لأننا لا ننتج شيئاً للعالم يصعب الإستغناء عنه. لا ننتج… قلنا، ليس بضاعة إستهلاكية أو صناعية أو كرتونية فحسب، إنما حتى معنوية، أو فنية أو إبداعية. ولا نذهب بعيداً عندما نضع إنتاجنا نفسه، نحن الكتاب، تحت المجهر: نبدو كأننا نقلد، كأننا لسنا نحن بالضبط، كأننا ننتج غربة أنفسنا، ونعود فنستهلكها.
لسنا أقوياء، هكذا، لسنا قادرين على كسر تلك الحلقة الجهنمية من حتمية تدخل خارجي في أية خطوة تتعلق بتغيير مصيرنا.
نكسر هذه الحلقة عندما نتفق على البدء بصناعة إبرة كومبيوتر…
المستقبل