“دوريات الموت” تغزو ليل اللاذقية/ بشار جابر
يتواصل قدوم دوريات الأمن (أغلبها “أمن عسكري”)، برفقة المخاتير إلى حارات مدينة اللاذقية الفقيرة ذات الأغلبية السُنية، فتتوجه إلى بيوتٍ معتقلين على خلفية أحداث الثورة السورية. الدوريات سلّمت الأهل بطاقات هوية أبنائهم المعتقلين وورقة تُثبت وفاتهم. وتحت الضغط غير القابل للنقاش أو الاعتراض أو الاستفسار، يُجبر الأهالي على التوقيع على أوراق لا يتمكنون حتى من قراءتها. أوراق تضع للضحايا أسباب وفاة، تُخلي الجهات الأمنية من المسؤولية.
على مدار الأسابيع الماضية، تابعت “المدن” وصول عناصر الأمن إلى الحارات، فتمتلئ أولاً بدوريات أمن من مختلف الأجهزة، سيارة أو راجلة، ثم يصل إلى كل بيت عنصرا أمن بصحبة المختار، يقابلون الأب أو من ينوب منابه. “دوريات الموت” تدخل البيوت بعد التاسعة ليلاً، في فترة انقطاع الكهرباء، ليبدو الأمر وكأن شبح الموت الأسود المبهم قد خيّم بكل هدوء. ثمّة صرامة أمنية يُركز عليها النظام لكي لا يبدو الأمر فاجعاً أو حزيناً، بل عليه أن يتم بكل هدوء.
وفي تقدير أولي، زاد عدد المعتقلين القتلى، الذين أعيدت بطاقاتهم مؤخراً، في مدينة اللاذقية وحدها عن الـ100. وقابلت “المدن” مجموعة كبيرة من ذوي المعتقلين القتلى، بعضهم اعتقل منذ العام 2013، وآخرين بين العامين 2014 و 2015، أي كلهم ممن مرّت على اعتقالهم سنتان على الأقل. ومعظم المعتقلين من الشباب، لم تتجاوز تُهمهم التظاهر أو المشاركة بأعمال اجتماعية وخيرية تجاه معتقلين آخرين، أو حتى التعبير عن الرأي في “فايسبوك”، أو ممن اعتقلوا نتيجة تقارير أمنية كيدية أو ما شابه ذلك.
أبو محمد، والد شاب عمره 28 عاماً، اعتقل عام 2014، قال إنه دفع مليون ليرة سورية ليعرف الفرع الأمني الذي يُعتقل ابنه فيه، ونصف مليون ليرة سورية ليتصل به في مكالمة هاتفية واحدة. الاتصال الهاتفي تمّ بداية العام 2017. محمد لم يُحوّل إلى السجن المدني أبداً، ولا يعرف الأب تهمة ابنه الجامعي أبداً. محمد “إتُهم بالإرهاب” على حد وصف ضابط في المخابرات “العسكرية” التقاه الأب من أجل المكالمة الهاتفية، من دون أي دليل طبعاً. وصلت هوية محمد وورقة وفاته في ليل 22 تموز/يوليو 2017، من دون معرفة تفاصيل الوفاة وتاريخها ومكانها.
الشاب خالد كان قد حوّل إلى سجن صيدنايا منذ العام 2014، وتواصل مع أهله لمدة عامين، بعد دفع مبالغ طائلة تجاوزت مليوني ليرة سورية. خالد اختفى منذ كانون الثاني/ديسمبر 2016، حتى وصول هويته إلى ذويه في 1 آب 2017. ذوو الشاب لم يتوقعوا وفاته أبداً، لأنه حتى لم يتعرض لتعذيب بعد عام من اعتقاله، وكانوا قد توقعوا تحويله إلى محكمة مدنية تمهيداً لخروجه. إلا أنه قد قُتل داخل السجن.
على الأقل، ذوو خالد ومحمد، تواصلوا معهما، في حين أن أغلب القتلى تحت التعذيب كانوا قد اختفوا من دون أثر منذ اعتقالهم حتى وقت تسليم بطاقاتهم الشخصية. المدة بين الاعتقال وإعلان الوفاة، غالباً ما طالت إلى ثلاث سنوات. الفقراء من ذوي القتلى، لم يستطيعوا حتى السؤال عن أولادهم، وطول فترة الغياب لم يتوقعوا أن تكون الوفاة هي المصير الأخير لأبنائهم.
الأهالي لا يتحدثون كثيراً عن وفاة أولادهم، إذ يُهددهم عناصر الأمن بالاعتقال في حال إشاعة خبر الوفاة، أو وضع النعوات وجلب الشيوخ لقراءة القرآن لهم. ويمنع الأهالي من أي مراسم وفاة رسمية أو عائلية حتى. خوف الأهل لم ينتهِ بمعرفة وفاة ابنائهم، بل دخل مرحلة جديدة من خشية تفشي الخبر.
التأويلات لسبب تصفية النظام لهذا الكم الكبير من المعتقلين وعلى مدار الشهرين الآخيرين، متعددة، أغلبها صبّت في عدم ثقة النظام بالكتلة السُنية الشابة التي يعتقلها. فالنظام أفرج في السنوات الماضية عن بعض المعتقلين بشرط الانضمام إلى قواته المسلحة، وأرسلهم تباعاً إلى الثكنات العسكرية والمواقع الحربية. قسم كبير منهم، تدبر أمره بالهرب أو الانشقاق أو ارتكاب عمليات انتقامية ضد ضباط النظام. ما جعل النظام لا يثق بمعتقليه المعارضين، وجعل من تصفيتهم في معتقلاته، أمراً أيسر له من قتالهم في مكانٍ آخر. “المدن” تأكدت من أن أغلب القتلى المعتقلين، كانوا سيخضعون إجبارياً لنظام الاحتياط العسكري أو الخدمة الإلزامية. النظام بلا شك لجأ إلى القتل والتصفية إنقاذاً لاستقرار قواته، متنازلاً عن السوري المشكوك في ولائه، بمقاتل شيعي لبناني أو عراقي أو إيراني.
المدن