صفحات العالم

دولة “الحشد الشعبي” في مواجهة دولة “الخلافة”/ عصام الخفاجي

 

 

عدا عن تصنيف صار مألوفاً، وربّما مملّاً، للقارئ عن عراقٍ جنوبه شيعي ووسطه سنّي وشماله كردي، وعدا عن تصنيف أكثر جدّة عن عراق يحكم «داعش» ثلثه، وحكومة كردستان ربعه والحكومة العراقية ما تبقّى منه، أقترح على القارئ التأمّل في تطوّر جديد «يتجاوز» الانقسامات الطائفية والقومية ليشقّ العراق إلى نصفين عموديين: شرق يمتد من الشمال إلى الجنوب يضم أكراداً وشيعة وأقل منهم سنّة تحرّرهم إيران من «داعش»، ووسط وغرب يمتد إلى الجنوب تتعهد قوى التحالف بقيادة أميركا بتحريره ولم تحرّره حتى الآن.

ساحة الفردوس وسط بغداد دخلت التاريخ. بات التاريخ الرسمي لسقوط نظام البعث هو يوم تهاوى تمثال صدّام حسين الذي انتصب وسطها في 9 نيسان (إبريل) 2003. في ساحة الفردوس اليوم، تنتشر بوسترات تحمل صور الخميني وخامنئي ومحمد حميد تَقَوي، اللواء في الحرس الثوري الإيراني الذي قُتل وهو ينسّق معارك «الحشد الشعبي» ضد «داعش». رمزية الأمر لا تحتاج إلى تعليق. هل يجرؤ عراقي على لصق بوست كارد صغير لأوباما الذي يقود التحالف الدولي لإنقاذ العراق وسورية من «داعش»؟

كل التقارير تشير إلى أن قادة «فيلق القدس»، وهم نخبة الحرس الثوري الإيراني، لعبوا دوراً حاسم الأهمية في المعارك التي حررت محافظتي ديالى وكركوك من «داعش» وهم يلعبون دوراً أكثر أهمية الآن في عملية تحرير محافظة صلاح الدين. يجلس تَقَوي متربّعاً على الأرض، يأكل مع مقاتلي الحشد الشعبي، يتبادل النكات معهم (فهو عربي من الأهواز)، ثم ينهض لأداء مهمّته «الاستشارية» وهي في حقيقة الأمر مهمّة قيادة وتخطيط عمليّات قيادة هذا الحشد. سقوط تَقَوي في سامرّاء حيث مرقدا الإمامين الشيعيين الحادي عشر والثاني عشر يضفي هالة كبيرة عليه، هالة ليست وطنية بالتأكيد، بل هالة المُدافع الشيعي عن أقرب المقدّسات إلى الحدود الإيرانية. ولكن ما يهم؟ لقد نجح الحشد الشعبي في إنقاذ سامرّاء ومدن مهمّة أخرى في محافظتي كركوك وديالى فيما يصارع الجيش العراقي، مدعوماً بطيران التحالف الدولي، لتحرير بلدات صغيرة مثل البغدادي في محافظة الأنبار، ويحقق البيشمركة الأكراد نجاحات أكبر، وإن لم ترقَ إلى مستوى ما حقّقته الميليشيات الشيعية من انتصارات.

ثمة احتفاء عراقي مشروع بتحرير أي منطقة من «داعش» وثمة تقارير موثّقة من منظّمتي العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش عن عمليات تطهير قومي وطائفي في المناطق المحرّرة تنفي قوات التحرير بخجل كونها جزءاً من مخطط سياسي، محيلة إيّاها إلى انحرافات يمارسها مقاتلون غير منضبطين. أمّا حين توجّه قوى محلية اتّهامات كهذه فإن الرد هو الإنكار وتوجيه اتّهامات مضادّة لتلك القوى بأنها تسعى لشق الصفوف وتكرر ما تقوله أجهزة معادية. ولكن ثمة نذير شؤم: كتل سياسية تدعو إلى سنّ قانون يجرّم من يشكّك بالدور البطولي الذي يقوم به الحشد الشعبي. قانون لن يمر على الأرجح، لكنه شقيق قوانين «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» التي مهّدت لصعود الاستبداد وكرّسته باسم مجابهة عدوان إسرائيل. فلأن «الظروف استثنائية» لا بد أن نتعامل معها بأساليب وسياسات استثنائية. ولا بد ألاّ يرتفع أي صوت يقيّد الأبطال عن أداء مهامهم. ولا بد من منح الجيوش وأجهزة الأمن سلطة التسلّط واحتواء الدولة، بل ابتلاعها مستفيدَين من حماس شعبي لتحرير أراضي الوطن والدفاع عنه.

الوضع في عراق اليوم يكرر ذلك المشهد الكئيب من حيث المبدأ، مبدأ السلطة التي تستغل التأييد الشعبي لمن يحرّر البلد من المحتَل لكي ينتهي الأمر إلى إذعان الجمهرة لاستبداد من حرّرهم.

لكنّ ثمة فارقاً نوعياً هنا. فسلطة الاستبداد لن تكون سلطة الدولة، بل هي سلطة ميليشيات الحشد الشعبي التي تهدد بأن تمسك بخناق العراقيين وتجعل الدولة رهينة لها، كما هي حال حزب الله اللبناني. هنا «داعش» وهناك إسرائيل والمعارضة السورية.

ليس في هذا القول مبالغة. فوفقاً لـ «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» المقرّب من دوائر صناعة القرار الأميركي، تغيّرت موازين القوى بين صنوف القوات المسلحة في العراق في شكل مذهل خلال خمس سنوات بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، عشيّة مغادرة القوات الأميركية وكانون الثاني (يناير) الفائت غداة انهيار الجيش العراقي واحتلال «داعش» لثلث أراضي البلد. انخفض العدد الإجمالي للقوات المسلّحة من 460 ألفاً إلى 342 ألفاً، أي بمقدار الربع تقريباً. لكن الجيش فقد ثلاثة أرباعه فانحسر من 210 آلاف إلى 48 ألفاً، وانخفض عدد أفراد الشرطة الاتحادية من 120 ألفاً إلى 36 ألفاً، وهكذا الأمر بالنسبة لقوات الحدود ووحدات مكافحة الإرهاب. أي أن عدد القوات الخاضعة لسلطة بغداد لم يعد غير مئة ألف أو أقل من ثلث العدد القائم اليوم. الأخبار المفرحة هي أن صنفاً واحداً من صنوف القوات المسلّحة ظل محافظاً على عدده البالغ عشرة آلاف وهم الحراس الأمنيون للمسؤولين. في مقابل سلطة بغداد المتحكمة بمئة ألف عسكري، ارتفع عدد قوات البيشمركة الكردية من ثمانين ألفا إلى 113 ألفاً، وانبعثت قوات مقاتلة جديدة قديمة هي قوات الحشد الشعبي التي يراوح عددها بين مئة ومئة وعشرين ألفاً. هكذا بات العراق تحت سلطة ثلاثة جيوش متكافئة العدد تقريباً.

ظهر الحشد الشعبي، كما يعرف المتابعون، إثر دعوة المرجع الديني السيستاني «المواطنين» لحمل السلاح دفاعاً عن العراق الذي كادت داعش أن تعصف به. وهو موقف يتّسق مع إعلان مرجعية النجف بأنها لا تتدخّل في الشأن السياسي إلا عندما يواجه المسلمون منعطفات تاريخية فتقدّم آنذاك توجيهات عامة، لولا أن ممثلي السيد السيستاني في النجف وكربلاء يخصصون للشأن السياسي والمطلبي جزءاً كبيراً من خطبهم ليوم الجمعة، تبدأ من التعليق على قانون الميزانية ولا تنتهي بمطالب الطلاب بعدم تخفيض مخصصاتهم الدراسية.

اندفعت جموع هائلة للالتحاق بهذا الحشد متحمّسة للدفاع عن الوطن أو عن الدين والطائفة التي يكفّرها «داعش»، أو بحثاً عن عمل. استخفّ كثير من المحلّلين وقتها بهؤلاء «الهواة» العزّل واعتبروا الأمر لا يعدو كونه اندفاعاً حماسياً لن يؤثر في سير القتال. وإذا بهؤلاء «الهواة» يظهرون مع أسلحة ثقيلة ومدرّعات وغيرها من الأسلحة التي لا أعرف أسماءها. ولم يتساءل أحد، أو لم يجرؤ على التساؤل، عن مصدر تلك الأسلحة مع أن الميليشيات أعلنت حل نفسها وتسليم أسلحتها للدولة بين 2009 و2010. ومنظمة بدر التي هي رأس الحربة في القتال، وهو قتال بطولي بلا شك، أعلنت تحوّلها من ذراع عسكري للمجلس الإسلامي الأعلى إلى منظّمة سياسية مستقلّة، علماً أن إيران لم تكن قد دخلت على خط القتال بعد.

من الإنصاف القول إن دعوة المرجع أكّدت على ضرورة أن يكون الحشد الشعبي تحت إمرة وزارة الدفاع. ولكن متى كانت جيوش يفوق عددها عدد الجيش الرسمي مستعدة للخضوع له؟ ثمة مسؤول عراقي «مكلّف بالتنسيق مع الحشد الشعبي»، وهو إقرار ضمني بأن الجيش والحشد الشعبي قوتان حليفتان متكافئتان يتطلّب سير المعارك أن تنسّقا في ما بينهما. والمسؤول المكلّف بالتنسيق هو أبو مهدي المهندس، نائب مستشار الأمن القومي الوارد اسمه في سجلات المخابرات الأميركية بوصفه قيادياً في الحرس الثوري الإيراني. وفي تقرير لنشرة «نقاش» الإلكترونية، يشتكي ضابط في الجيش من أن قوات الحشد الشعبي تخطط وتنفّذ المعارك من دون إعلامهم مسبقاً، ولا يستغرب تفضيل الشباب التطوع في الحشد على التطوع في الجيش: «إنهم أحسن منّا تسليحاً، يتمتعون بإجازات أكثر منّا، ويستفيدون من امتيازات لا ننعم بها».

لقد انطلق الجمع مستفيداً من غطاء شرعي أضفاه عليه المرجع في النجف. لكن السيد هادي العامري، أمين عام منظّمة بدر، أعلن بفخر لمجلة «فوراين بوليسي» بأن السيد خامنئي «ليس قائداً لإيران فقط، بل هو قائد الأمة الإسلامية»، مستدركاً أنه لا يجد تناقضاً بين ولائه لخامنئي وبين انتمائه العراقي.

هكذا انتفت الحاجة إلى صاحب المبادرة ليتولى فقيه إيران إكمال المهمّة.

* كاتب وباحث عراقي

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى