حازم نهارصفحات الرأي

دولة “الدين لله والوطن للجميع”

حازم نهار

 أطلق سعد زغلول شعاره “الدين لله والوطن للجميع”، ليكون شعار ثورة 1919. وبعدها كان شعار آباء الاستقلال في سورية. لكن البعض يعتقد اليوم أنه شعار “علماني” لا يتوافق مع قيم الدين الإسلامي، ولذا فهو مرفوض. بينما هو في الحقيقة ليس شعاراً علمانياً أو إسلامياً، بل هو من صلب بناء الدولة الوطنية الحديثة.

 لو كانت المسألة تتعلق بالدين الإسلامي، كنصوص وتجربة في التاريخ، لأمكن بسهولة العثور على ما يؤيد هذا الشعار. ويكفي أن نذكر بالآية القرآنية “لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي”، وكذلك “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” حتى نستنتج زيف كل الدعوات التي تظن أن إقامة دولة إسلامية هي عمل يتوافق مع الإسلام. هناك تجارب تاريخية إسلامية عديدة تؤيد محاولات بناء “الدولة” على الطريقة التي تتيح ليس بناء مجتمع يحقق المساواة بين جميع معتنقي الديانات فحسب، بل أيضاً المساواة بين “المؤمن” و”الكافر”، على اعتبار أن الحياة الدنيا هي للجميع على حد سواء. أما المحاسبة فهي من اختصاص رب العالمين وحده “إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون”، أي أن الفصل في معتقدات الناس وقناعاتهم في الحياة الدنيا ليس من مهمة أحد، وهو متروك لله في يوم القيامة، فما على الناس إلا أن يتعايشوا بأمن وسلام وأن يترك كل إنسان لأخيه الإنسان علاقة العبد بربه.

 ربما هي ردة فعل على “علمانية” النظام الزائفة، على الرغم من أن الجميع يعرف أن النظام لم يترك شيئاً إلا وشوّهه أو زيّفه. في الواقع كان شعار النظام “العلماني” في أحسن الأحوال هو “الدين لله والوطن لي”، هذا إن لم نقل “الدين والبشر والوطن جميعهم لي وفي خدمتي”. فالوطن لم يكن أكثر من ملكية خاصة للنظام الحاكم ولمن يرضىى عنهم، أما المعارضون لسياساته، فإنهم مطرودون من رحمة الوطنية ومتهمون بأنهم يعملون ضد الوطن.

 رفض الإخوان المسلمون في مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية إدراج هذا الشعار في العهد الوطني، لكنهم وافقوا على فكرة “المواطنة المتساوية”، مع أن جوهرهما واحد. وبعد ذلك أصدر الإخوان وثيقة “عهد وميثاق” ولاقت ارتياحاً كبيراً بعد أن حسمت الجماعة خيارها بمجتمع المواطنة وبدولة “مدنية” يتساوى فيها الجميع رجالاً ونساء على اختلاف أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم. والأهم أن الوثيقة تجاوزت الدستور السوري وأظهرت الاستعداد لقبول أي شخص في موقع المسؤولية أياً كان جنسه أو دينه، بما فيها رئاسة الجمهورية.

 وعلى الرغم مما سبق، فثمة شكوك بنيات الجماعة، وخوف من أنها قد تضمر غير ما تظهر، ولهذا مبرراته المعروفة لناحية تاريخها الزاخر بعصبيتها الأيديولوجية الدينية وبأساليبها الإقصائية والعنفية، وضعف قواعد الحياة الديمقراطية في بنيتها التنظيمية، خاصة لناحية اعتمادها على قيم الطاعة والولاء، وكذلك اسم الجماعة ذي المدلول الديني، وأخيراً غموض موقفها حول دور الإسلام في التشريع، وحدود تدخله في الحياة الاجتماعية والمدنية، وهذه كلها ستظل تنتج حالة من عدم الاطمئنان طالما لم تحدد الجماعة خياراتها بوضوح في الخطاب والممارسة على حد سواء.

 على الإخوان، وبقية أطراف المعارضة، الخروج من النقاش العقيم، الذي جربته بلدان كثيرة، حول صفات الدولة المستقبلية: هل هي إسلامية أم مدنية أم علمانية. إذ ينهك الجميع أنفسهم في تناول صفات الدولة، بينما الدولة ذاتها كمفهوم ما تزال غير واضحة في أذهان الكثيرين. فالدولة الوطنية الحديثة لا تحتاج إلى أي أيديولوجية، سواء أكانت علمانية أم إسلامية، لأنها، أي الدولة، كائن سياسي وقانوني حيادي، فوق الأيديولوجيات والطبقات والفئات والأفراد، ومحايدة إزاء أديان وعقائد مواطنيها. الدولة مفهوم مجرد يدل على العمومية ولا يقبل أي صفة تحدّ من عموميته، أما السلطة الحاكمة فيمكن أن توصف بأنها دينية أو مدنية أو علمانية.

 الأديان والعقائد خاصة بأصحابها، فيما الدولة شأن عام يخص جميع المواطنين. لذلك فأي صفة توضع بعد الدولة لا تكون من جنسها، أي لا تكون ذات طبيعة عمومية أو وطنية، فإنما تقوِّض أسس الدولة ذاتها لأنها تجعل منها دولة خاصة بطرف معين. الدولة الوطنية شأن عام يتجسد في الدستور، فيما الدين/المذهب هو شأن خاص بأصحابه، والدول تبنى على ما هو عام وليس على ما هو خاص.

 تبنى الدولة استناداً إلى عقد اجتماعي/دستور، وهو التعبير القانوني والحقوقي لما هو مشترك بين جميع الأفراد وجميع القوى والفئات الاجتماعية. من الخطأ الاعتقاد أن الدستور تحدِّده الأغلبية فحسب، سواء أكانت أغلبية عقائدية أو سياسية، لأن الدولة ستكون وقتها دولة هذه الأغلبية فيما الأقلية تصبح خارج الدولة. العقد الاجتماعي هو عقد توافقي بين جميع المواطنين، ولذا يفترض ألا يحتوي إلا على ما هو مشترك بينهم، وعندما يصبح ذلك ممكناً تصبح الدولة دولة جميع المواطنين.

 إن مجرد الإقرار بالمواطنة المتساوية فإن ذلك يعني أن الدولة حيادية بطبيعتها وعلى مسافة واحدة من جميع المواطنين، بغض النظر عن الحزب الموجود في السلطة، سواء كان صاحب أيديولوجية علمانية أو دينية. أما سيادة الدولة فهي سيادة الشعب، كل الشعب، وليست سيادة السلطة الحاكمة أو سيادة الأغلبية. والشرعية الدستورية تستمد من الشعب، أو من العقد الاجتماعي لا من أيديولوجية بعينها أو أكثرية عددية، إثنية أو دينية أو مذهبية.

 بالطبع، ليس هناك اعتراض على تأليف الإسلاميين لحكومة ما في المستقبل، وحدهم أو بالاشتراك مع غيرهم، ولكن  تكمن المشكلة في الإغراء الموجود لدى البعض بمحاولة “أسلمة” الدولة بعد وصولهم للحكم، مما يلغي طابعها العام/الوطني، كما قام النظام السوري بتبعيث الدولة وتحويلها إلى مجال خاص، وعندها ستنحدر الدولة موضوعياً إلى مجرد سلطة قهرية، ولا تفيد هنا شعارات التسامح والتعايش، وستفتح أبواب الحرب الأهلية، كما حدث ويحدث في أماكن عديدة. يمكن أن يصل حزب ما، عبر الانتخابات، إلى السلطة. لكن هذا الحزب لا يستطيع تغيير أسس الدولة وإلغاء عموميتها وحياديتها. لنتخيل كيف ستكون النتيجة إذا تمخضت الانتخابات عن حكومات مختلفة، وفي كل مرة تقوم الحكومة المنتخبة بتغيير أسس الدولة، سنكون وقتها أمام دولة هشة وغير مستقرة.

 أما تعبير “الدولة المدنية” المتداول كثيراً، فهو تعبير متناقض في ذاته، لأن مدلولاته عند الإسلاميين مختلفة عن مدلولاته عند العلمانيين أو غيرهم، وجرى التوافق عليه إما جهلاً أو مكراً. فهو يدل على الشيء ونقيضه، ويستخدمه الجميع بمعانٍ مختلفة، أي يخفي تحت الاتفاق عليه خلافات مؤجلة يجري السكوت عنها اليوم لصالح “التوافق الشكلي” فحسب.

الدولة الممكنة في سورية هي الدولة التي تقوم على “الدين لله، والأيديولوجيات لأصحابها، والوطن للجميع”، أي هي الدولة العمومية/الوطنية، الدولة الحيادية، دولة المواطنة المتساوية، وبديلها هو الحرب الطائفية والإثنية والسياسية التي لا تترك أحداً من شرها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى