صفحات الرأي

دولة المواطنة كنقيض تاريخي لدولة الاستبداد


ماجد الشّيخ

تصنع الثورات الديموقراطية المدنية والسلمية، عقودها الاجتماعية والسياسية، عبر ما تطلقه من زفرات التحرر والتكتيل المواطني لشعوب تعيد الاعتبار لوطنيتها التي لفظتها وتلفظها الأنظمة السلطوية، باعتبارها النقيض التاريخي لها ولوجودها المزمن في السلطة، ما أدى ويؤدي إلى إغراق الأنظمة لوطنية شعوبها، كأداة موحدة وصلبة في معمعان صراعات طوائفية أو فئوية متمذهبة، جاعلة من تلك الصراعات السد الحاجز المانع للنهوض؛ نهوض الشعب من كبوات وتمزقات الروح التعصبي، الذي عمدت وشجعت أنظمة الاستبداد السلطوية على نشره وإفشائه لدى شعوبها، كمعلم من معالم ترديات أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، بينما هي كانت تتكفل بخلق تردّ سياسي وثقافي عميق في إطاراتها السلطوية.

وإذا كان للاستبداد السلطوي أن يقوم مقام الإلغاء للشعب، والتعاطي بخفة مع وجوده، فلأن السلطة لا ترى سوى ذاتها في منظارها، أما الشعب فهو كتلة أخرى لا سلطوية، لا تملك سوى التواجه معها ومع وطنيتها الموحدة؛ وطنية مهجورة، هجرتها الأنظمة بفعل آليات ومآلات هيمنتها السلطوية، ورؤيتها لواحديتها كذات متضخمة على حساب شعبها ووطنيته الجامعة، نفياً لمواطنة طالما وقفت وتقف عاجزة عن تأكيد ذاتها، في مواجهة ثقافة العصبويات وأيديولوجيات التقاليد الانقسامية؛ دينية كانت أو مدنية/حزبية.

وعلى العكس من سلطويات الاستبداد الأبوي البطريركي في مجتمعاتنا ودولنا، وإذ ينهض الشعب في ميادينه وساحاته العامة، فلكي يؤكد خروجه على تلك المعازل والخصوصيات الأهلية الضيقة ما قبل الدولتية، وهي الخصوصيات التي جعلتها الأنظمة هدفاً لسلطويتها المانعة، والحاجبة للمواطنة واستحقاقات حقوقها وواجباتها، كما يتضمنها العقد الاجتماعي المتوافق عليه، وفي مقدمة تلك الحقوق، واجب تداول السلطة والخضوع للقانون والمساواة أمامه، في ظل حرية سياسية يتساوى في إطارها الجميع، كل الجميع سلطة وشعباً على اختلاف أطيافه، لا النخب أو الطغم السياسية المهيمنة، وكذا لا أن تكون السلطة هي المحدد الأول والأخير لحريتها هي، في منح أو منع الحرية للشعب في أن يتصرف ككتلة واحدة موحدة في وطنيتها، وفي إعطاء شرعية ومشروعية إدارة الدولة، كمؤسسة لا تعود “ملكيتها” للسلطة، بل هي الملكية الأشد خصوصية لشعبها هوية وانتماء.

لقد تجاوزت شعوب بلادنا وخلال فترة وجيزة، وبفعل ثورات الشعوب المتناسلة، ليس حواجز الخوف والصمت فحسب، بل وألغام التفجير المجتمعي التي لطالما زرعتها الأنظمة من أجل إدامة سلطتها وهيمنتها على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيما هي تعمد إلى تغريب مواطنيها وسحق وحدتهم المجتمعية الداخلية في مواجهتها. وها هي شعوبنا تنهض من سباتها ومسببات صمتها كتلة ناطقة، وإرادة متحفزة، كي تمارس فعلها المواطني كسياسة عامة، وكأنها تكتشف قوتها الكامنة في ممارستها الطبيعية لدورها الذي غيّب طويلاً، وكان يختفي خلف طبقات من تعصبات وعصبويات التمذهب والانقسامات التقليدية التي لطالما رعتها سلطة الأنظمة التقليدية، والسلطات الأخرى الموازية؛ مجتمعية ودينية.

رغم كل ذلك، فإن أنظمة كثيرة تبرهن اليوم أنها ماضية باتجاه السقوط في امتحان الإصلاح، إصلاح تاريخي مفوّت فات أوانه، مع تكشّف أزمات وطنية تنتقل تدريجاً نحو كونها تاريخية، وليست أزمات عابرة، يمكن تجاوزها بمعالجات أمنية قمعية. وكما كانت هذه الأنظمة ذاتها قد سقطت في امتحان السياسة والمعالجات السياسية لإشكالات مجتمعاتها، فعجزت عن أن تفلح في معارك احتوائها، عبر أجهزتها البوليسية وأدواتها الأيديولوجية الأخرى، وهي إذ عمدت إلى تفجير مجتمعاتها من داخلها، فلكي يسهل لها الاستيلاء عليها، وتأميم كل حيوية يمكن أن تطلقها في مواجهة إشكالاتها مع السلطة، ومع نظامها الذي تكلس في جموده، بحيث ما عادت تحتمله المجتمعات، ولكون أنظمة كهذه عادة ما تراهن على استمرار آليات الإخضاع القديمة ذاتها، من دون أن تلجأ أو توافق على الحوار، أو أي شكل من أشكال التواصل مع مجتمعاتها المنبوذة.

وها هي اليوم تلك الأنظمة، وعلى اختلاف طبائعها الاستبدادية، تواجه معضلة فشلها في مهمة الاحتواء، ما وسّع من قواعد التمرد الشعبي ضدها وضد أجهزتها وكامل آليات سلطويتها، إلى حد رفض كل ما يصدر اليوم من قبل السلطة أو رأس نظامها، من وعود الإصلاح، فقد انكسر “حاجز الثقة” الذي كان مفروضاً بقوة الإكراه والغلبة، مع انكسار حواجز الخوف والصمت، وبتشجيع من تجارب شعبية ناجحة، أضحت تشكل نموذجاً يمكن النسج على منواله في ظروف ومعطيات مختلفة، لكنها تلتقي في مشابهة طرفي نقيض العملية الثورية الجارية اليوم للانقضاض على سلطة القهر والغلبة والإكراه. ولتحقيق مواطنة ناصعة، وساطعة في حقوقها وواجباتها، حرة في تعبيرها الديموقراطي السلمي، حرة في تساويها أمام القانون وفي ظل سلطة قضائية نزيهة، لا تنحاز لجانب سلطة هي غالباً الأقوى في مواجهة جبهة المواطن والمواطنة.

ولا يحقق المساواة والحق والعدل سوى دولة مدنية مؤسساتية حديثة، هي دولة المواطنة؛ النقيض التاريخي لدولة الاستبداد البوليسي التي عايشنا ونعايش العديد من أنماطها؛ منها ما سقط رأسها ولم يسقط نظامها كاملاً بعد، ومنها ما يترنح رغم فرضه شكلاً عنيفاً ومسلحاً من أشكال الصراع مع الشعب، ومنها ما يقود قمعاً أهلوياً وسلطوياً عنيفاً بأمل النجاة والاحتفاظ بالسلطة، وهو أمل مستحيل في ظل فقدان أنظمة استبداد الحزب الواحد لشرعيتها ومشروعيتها، وسقوطها قيمياً وأخلاقياً وسياسياً، بفعل مواطنة تنضج شرعيتها ومشروعيتها في ميادين الكفاح الشعبي السلمي والمسلح، وفي ساحات التغيير والتحرير كأداة تجمع في بوتقتها كل عناصر الطيف السياسي والمجتمعي.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى