صفحات الرأي

دولة المواطنة ليست كومونة أفلاطونية


مأمون كيوان *

يبدو أن تسونامي الاحتجاجات والثورات العربية السلمية والمسلحة وصل إلى ذروته في محطته السورية التي كانت معبرة عن أزمة الدولة العربية في مظهريها: القومي والقطري. لذلك، يبدو أن مستقبل الدولة العربية الفاشلة والمترهلة يُنذر بإمكانية الإعلان عن موتها موتاً تاريخياً ومجتمعياً، لا سريرياً، لجهة فوضى السلاح والمعارضات واضمحلال هيبة الدولة وسيادتها.

واتخذ موت الدولة العربية شكلاً تدرجياً ارتبط بأزمة بنيوية صاحبت نشأة الكيانات السياسية العربية، حيث وقفت على ساق واحدة ممثلة بالسلطة الحاكمة المحتكرة للثروة والقوة والمنفصلة عن المجتمع بمكوناته الرئيسة. وكانت النتيجة وجود أقفاص سياسية لمجموعات بشرية تطحنها وأعراف قبلية ونزاعات دينية ومذهبية وطائفية وقومية وإثنية جمدت ظاهرياً، ومسيجة بحدود سايكس – بيكو وأحلام يقظة بسماركية وقومجية.

وربما لم تكن مجرد مصادفة أن يكون تقزيم مشروع «سورية الكبرى» إلى «سورية الصغرى» بعد حرب فلسطين 1948، محطة البداية في موت الدولة العربية حيث كانت سلسلة الانقلابات العسكرية التي كرست شعبوية تسلطية عبرت عن نفسها بوضوح في عهد الوحدة السورية – المصرية الذي كان قصره زمنياً مؤشراً إلى انفجارات وتشظيات لكيان الدولة في البلدين. فكان أمراً صعباً أن تُسجن مصر شعباً ومجتمعاً في قفص الناصرية والساداتية والجملوكية المباركية، وثمة صعوبة مضاعفة ستواجه محاولات «أخونتها» على غرار دولة «آيات الله» في إيران.

وكان العراق المحطة الثانية، حيث تقلص إلى دولة بغداد المقيدة بخطوط العرض الجغرافية والقومية والإثنية والمذهبية شمالاً وجنوباً، ووضع الحاكم الأميركي بول بريمر حجراً على قبر الدولة بعد حل الجيش وإشاعة شكل تقسيمي للفيديرالية.

وتتمثل المحطة الثالثة وربما الأخيرة في السجالات والخطوات الديموقراطية المبتدئة في مسار البحث عن الدولة الحداثوية التي يجسدها الحكم الرشيد الذي يتكون من مجموعة قيم تشمل حكومة فعالة، وحكم القانون، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، واقتصاد السوق، وضماناً معيناً من الرفاهية الاجتماعية.

ومقابل الحكم الرشيد ثمة دعوات لإعادة النظر في مفهوم الدولة ذات السيادة، والتأصيل النظري لمجموعة مفاهيم أبرزها «الحكم من دون الدولة» وإنشاء «دولة مقيدة» أو «محدودة الصلاحية» تفتقر إلى القدرة على تطبيق القانون، أو لاحتكار الأدوات المشروعة لاستخدام العنف، على خلفية الاعتقاد أن الحكم قد يتم أيضاً من طريق الشبكات التفاعلية بين مجموعة من الفاعلين.

ويعتقد توماس ريس، محرر كتاب «الحكم بلا دولة: السياسات والسياسة في مجالات إقامة دولة مقيدة» أن الدولة المحدودة/ المقيدة ليست مصادفة تاريخية، وهي ليست مقصورة على دول العالم النامي، بل موجودة، وإن لم تحظ بالدراسة الكافية، وأن الدول التي عانت من الاستعمار تقدم أبرز صور الدول المقيدة/ المحدودة، إذ افتقرت إلى القدرة على اتخاذ القرارات وفرضها، كما لم تتمكن من احتكار استخدام القوة.

وبشر ريس بأنماط جديدة للتفاعل بين الدولة والفاعلين غير الحكوميين في عملية وضع القواعد القانونية، فضلاً عن تأكيده أن الدولة المقيدة ليست ظاهرة غير طبيعية أو مكروهة، بل على العكس قد تكون أكثر شيوعاً من الدولة «الكاملة»، وأقدر على تلبية الحاجات الفعلية للشعوب في عصر العولمة.

وفي الواقع العربي يمكن اعتبار السلطة الفلسطينية الساعية إلى الحصول على عضوية الأمم المتحدة شكلاً ساذجاً من أشكال الدولة المقيدة، وكذلك حال دولة العراق الجديد الفاشلة بامتياز أو تلك الدول التي يصنعها مبعوث دولي يجمد الصراعات الأهلية السياسية لمصلحة وجود «كومونة» أفلاطونية ورقية قابلة للانهيار السريع.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى