صفحات الثقافة

دومينيك غرانمون لا يصعدون القطار إلا في آخر ثانية

 

 

ترجمة وتقديم محمد حمودان

يعد دومينيك غرانمون واحداً من أهم شعراء فرنسا اليوم، رغم ابتعاده عن الأضواء واختياره العيش كراهب، في عزلة شبه تامة، في ضاحية سان دوني شمال باريس. وقد ولد غرانمون في مونتوبان يوم 25 يناير 1941 من أم مدرسة ذات أصول بروتونية وأب لاجئ من رومانيا. تابع دراسته في ثانوية «لوي لو غران» في باريس ثم في مدرسة «سان سير» العسكرية. عين إثر تخرجه ضابطاً في الجزائر، غير أنه سيغادر المؤسسة العسكرية بسبب معارضته للحرب ليكرس بعد ذلك حياته للكتابة.

نشرت أولى قصائده سنة 1964 في مجلة «الآداب الفرنسية» من طرف لوي أراغون. في هذه الفترة، تنقل غرانمون، سيراً على الأقدام، بين دول أوروبية عدة، في محاكاة لرامبو: «طبعاً، كنت أرغب بدوري في تعقب أثر آرثر رامبو»، كما صرح لنا بذلك في حوار أجريناه معه حديثاً. إلى جانب أعماله الشعرية وكتبه السردية والنقدية، التي توج بعضها بجوائز مهمة كجائزة «نيلي ساش للترجمة» و»ماكس جاكوب للشعر»، ترجم غرانمون من الإغريقية كل من ريتسوس وكافافي ومن التشيكية فلاديمير هولان وجاروسلاف سيفيرت.

أول ما يشد انتباهنا عندما نقرأ قصائد دومينيك غرانمون هو تركيبها الصارم واعتمادها على جمل قصيرة، متقطعة وخاطفة كأنها ومضات، بحيث إن الكلمات التي تشكلها تختفي ما إن تكاد تظهر. الشيء الذي يجعل من إيقاعها إيقاعاً سريعاً لا يترك للقارئ فرصة للاستراحة أو للتأمل، بل على العكس يجرفه بقدر ما يجرف الكلمات إلى ما لانهاية.

على مستوى آخر، تظل قصائد غرانمون متجذرة في الواقع غير أنه لا يمكن أن نضفي عليها صفة الواقعية. فإذا كان غرانمون يستوحي بالفعل كتاباته من ما يحيط به، من فضاء المدينة، من أحياء الضواحي المهمشة أو من المعامل، فهو يعيد تشكيل هذا الواقع ويمنحه أبعاداً أخرى. شعره لا يحاكي أبداً الواقع بل يطمح إلى خلق عوالمه من «الفراغ» وهو يوجه بوصلته نحو المستقبل: «لست من أجل شعر انصهاري بل من أجل شعر ينطلق ثانية من الصفر، شعر يفسح كل المجال للاختلاف وللتفاوت حتى يواجه مستقبله أكثر مما يواجه ماضيه»، يقول غرانمون في نفس الحوار.

يجد القارئ هنا ترجمة لمقاطع من ديوانين حديثين وهما ديوان «كلمات مثل الطريق» الذي استخلصه الشاعر من تجربته كمعاون سائق شاحنة لمدة خمس سنوات قطع خلالها خمسة ملايين كيلومتر، وديوان «مرة واحدة ليست أبداً».

مقاطع من ديوان « كلمات مثل الطريق»

 

1

لا أرى شيئاً، بالطبع. الشمس هي الطريق بين الشجيرات والحصى. الأيكات، وحوش مقدسة. أسفلت يرتعش تحت شاحنات مجمدة في مكانها بالمئات. وهم صارخ، أنت تعلم أن لا جدوى من المشي. إنك تتكلم لغة لا حاجة لها أن تكون، وحدها الكتابة تتغير. لا فضل لك، بما أن الأمر أقوى منك. تقضي عمرك وأنت تحاول أن تكون رجلاً، ثم ترحل مثل الآخرين. درابزين مدمر، صناديق بريد مثبتة على جدران الساحة. شارع مخنوق بالإشاعات وبالعادات. أفكاك مشدودة تحت الخوذات. إله بترول فوق آلة أمل. تتكلف نقطة الانطلاق بالباقي. إلا أن الأشياء لا جنس لها، لكنها هي الدليل على الفراغ الذي من المفترض أنها تحاربه. هذا ما يحكم على الفانتازم أن يتكرر من دون أن يتناسل. إنه وحدة القياس التي تحدد ثمن المجانية، عندما يأخذ المال المكان الدقيق للقيمة التي يفتقدها. لكي لا يمر الوقت من جديد، امنعه من المرور. سد الطريق في وجهه، حطم حلمك. أنت لا تكتب لتربح الوقت. القديم حديث مثلما الحديث هو مسبقاً قديم. إننا لا نلحق أبداً بأي أحد.

 

2

أحمر يتقدم، صفوف أعمدة. أرغن يبطئ سرعته مثل محرك يتضمن درجتي سلم. أرى العالم كما أنا. أنا هذا العالم غير الموجود. كل شيء هنا، في نفس الوقت الذي يجب فيه أن يزول كل شيء. ليس ثمة حصيلة، فالحزن لا يحكى. الحقيقة أقرب إلى الجهل من المعرفة. أكتب كي أفي بوعد لم أقطعه على نفسي. أمضي عمري في قول ذلك. المدة هي ما يسمح للزمن أن يتوارى. جدار يخرج من الظل ويضاعف رتابته عندما يطقطق المطر حول برك الماء. أرى العالم كما أنا، لكن ما أراه ليس سوى العشب والرمل. على السياج المشبك أن يجعل الباقي يلمع. ليس هناك زمن خارج المادة. خطوة على الحصى، التاريخ. شعاع دراجة هوائية. إنه هذا اللاشيء هو سبب الكل، لا العكس. أخرج من نفسي كما من غرفة، الظلال حيوانات. محطة القطار سينما عملاقة حيث يقع المستحيل. هذا هو الواقع. أحمر يتقدم، شمس أو صفوف أعمدة يغير توهجها مظهر ما يدمر، وأصوات تحدث صريرا في البعيد مثل قلم فوق الورق.

 

3

الكون، دماغ إنسان. جدران منهارة، شعوب صماء. وحدها الضربات تتطابق في السقالات. لم تملك أبداً ما يكفي من أي شيء. قمر غامض أحمر بين الأسطح، أبراج الأسلاك الكهربائية. زجاج نافذة محطم، أجساد – آلات. لست سوى واحد بين الجميع، صورة مقلوبة لــ لا أحد. مرعى ذهب السُحُب. بعد ذلك فهي تتمزق. الكبرياء المجنون لعزلتك. النوافذ صراخ، ورئاتنا سلالم من نار. الإنسان المطروح أرضاً هو هذا الإله الزائد عن اللازم. لا اقتسام معه. تبادل مطلق، قلبٌ حدودٌ. فقدانه برهان، غيابه في كل مكان. خارج عيني، الضوء! أنا ما لا أراه، وأنسى الموت في أحضانك، هذا الخوف الذي جعلنا نولد. صوت مقابل ضباب. جلد يتذبذب فوق الخشب. أنا الكلمة الناقصة، كي أخلق ما خلقني. لدي بمثابة دم الغبار، بمثابة راية هذه السماء الملطخة. ليس لدي ما أمنحه مقابل الانتصار الغامض لأدنى نضرة. مهزوم من يتحدث لأول ريح، وبجعة تخفق بجناح واحد فوق الأوتوروت. أحلامنا أفق متكلس، تقلد شمساً تثقب ماء الشجر، بين الزمن الذي يمر والزمن الذي لا يمر. ضوء في الضوء أو طريق بلا عودة.

 

4

لاجئون يشخرون تحت المطر، صناديق القمامة مثل تماثيل. المجد السخيف للبِتْيُومِين، ما إن نسير أسرع من الكلمات. أحاول على الأقل أن أنسى ما أقوله وأنا أقوله. الشفقة لمن لم يسقط في هوة الذاكرة. الأفق، وطنهم. لا سحر في ذلك. قوافل ليل على أرضية تتذبذب. أشجار شاهقة من انحنائها على الزجاج الذي تهزه مكبرات الصوت. أين تكون عندما تقتلع الرياح أبواب الزمن؟ النجوم قطارات، غير أنها لا تستطيع اللحاق بالفراغ. ساهرون منهارون على طاولات أو ضحايا متنكرون في هيئة جلادين، وهؤلاء الذين يغنون في الراديو كما لو أنهم يغسلون الأسنان. مهما سمعت، لا شيء يتغير. ليل ينطلق بكل سرعة. لو كان العالم فقط ما هو عليه، لما كان عليك أن تبحث له عن اسم. مهما نسخ المطر بِرَكَه. أعرف لماذا يعاودون السير عند الإشارة الصوتية، عندما تستعمل حقيبتها كما لو أنها بندول. مجموع غير قابل للانقسام. زمن يمر بصورة نهائية، دون مستقبل، دون حكايات. فقط صوت يسبق الفضاء. صفحته ممزقة، رمل مضبوط.

 

قصائد

 

من ديوان «مرة واحدة ليست أبدا»

 

القطار فائق السرعة للساعة الثالثة وثماني عشر دقيقة

 

هنا لم يعد للزمن وجود، والحشود دائماً تسبق التاريخ. يأتي الصخب ليأخذنا، لكنه أسرع من الذاكرة. إننا في معبد الصدفة، والقبب تعكس صوت نبوءتها الخرساء. حتى هؤلاء الذين يرحلون لا يكفون عن الوصول. تتعاقب بورتريهاتهم على النوافذ، لكن لا حاجة للقاءات بالمواعيد. هناك قليل من الشمس في سيقان الحياة، والمسافرون يتأملون من فوق الجسر ماء الطرق. هنا تنجب الدقة اللانهاية، وعنف الأضواء يأخذ منا ما يضيفه. ليس هناك مكان أكثر عمومية من محطة. لكن لا يهم في أي مدينة نحن، ولا أن يكون المستقبل عند نهاية الأرصفة. المحطة تنجح في الجعل من البعيد كل مكان، والسنين تترك سليمة أسطورة الحديد الخاصة بها.

 

مخرج الطوارئ

 

إنني متفق معكم، ليس ذلك تماماً ما أود أن أقوله. إنها بعض النبتات هي التي أبدعت الانطباعية، ويمكننا أن نعثر على الله في الغبار. هذا على كل حال رأي المسافرين الأكثر حنكة. المذهل في اليوغورت، هو أنه لا ينفجر في الكثير من الأحيان. نفس الشيء بالنسبة لعازفة البيانو. بفستانها الخاص بالسهرة، بحقيبة الظهر، تسببت لي أناقتها بالقشعريرة. لا أحتاج أن أقول لكم أنهم كان يزدحمون داخل القاعة. كل أبائي مسرورون، نهاية الفصل الثاني. استغل الفرصة لأقفز من النافذة. استنفدنا كل مؤونتنا من تبن الحمالة. عليك أن تجعل نفسك تنساق إلى القليل من الحياء. هذا ما لا يتوقفون عن قوله لي. لكن لديهم طريقة في عدم النظر إليّ أجدها جد لطيفة.

 

تتأخر السماء

 

إنه الأمر الأكثر إثارة للأعصاب. أنزل حصرياً إلى الشوارع التي لا وجود لها. أخبط رأسي بجدرانها كي أنسى أنني أعمى. أصرخ بقوة أكثر مني، أنا ما أبدعه. لو كانوا أشباحاً لما جاعوا. أقتفي أثر أصواتهم، أقتفي أثر حركاتهم. كم أود الذهاب معهم أنا أيضاً، لكنهم يصعدون للقطار بدون تذاكر. لذلك أصعد بعد انطلاقه. من أجل الدخول في المشهد. لا أوجد إلا إذا سطوا على أفكاري دون أن يدركوا ذلك. هذا هو التبادل، انفجار القوسين. بما أننا لا نرى أي شيء إلا من الداخل، وما دام ليست هناك نهاية للعالم. فقط لبلاب، قيثار وفسيفساء في نفس الوقت، في لمعان الذهب الرمادي للبساتين. نحن في الخارج، لكن الخارج لا يكف عن التراجع إلى الخلف. ليست هناك وسيلة أن نشعرهم أن ساعة الرحيل قد حانت. زجاج النوافذ سُحُبٌ. تتأخر السماء. أنه بديهي أكثر فأكثر أن كل الحكايات لا تشكل إلا واحدة. أنا خادم عادي، لكني لست متأكداً من أن جسدهم من لحم. تنزع منا الحقيقة ما تعطيه إيانا، يشرحون لك. لهذا السبب فهم لا يصعدون القطار إلا في آخر ثانية.

الأخبار –ملحق كلمات-

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى