صفحات العالم

ديبلوماسية التواطؤ والمهانة موروثة من القرن التاسع عشر/ برتران بادي

 

من أوكرانيا الى ســورية، مروراً بمالي، يبدو النظام الدولي رجلاً مريضاً. ولم تعد تدور عجلة نموذج القـــوة والهــــيمنة الموروث من القرن التاسع عشر، وليست المهانة مفهوماً نفسانياً. فهي تسم الخطاب والخطوات الديبلوماســـية منذ وقت طويل. وتسوغ فكرة التفوق الإهانات هذه. وتعود ديبلوماسية اليوم الى كونغرس فيينا (1815- 1818) يومها كانت اوليغارشية اريستوقراطية وأوروبية، الفيصل في مصير العالم. ومجموعة الدول الثماني هي مرآة النموذج هذا. وديبلوماسية التواطؤ بين انداد في دائرة مغلقة تؤدي الى الإقصاء وإلى مشكلات اليوم التي لا تجد حلاً. في الماضــي كان الاعتداء عــسكرياً، واليوم حل محله الإقصاء.

والمهانة تصبغ النزاع في اوكرانيا. فروسيا ترى انها بلد كبير أنزل التاريخ به مهانة لا يستخف بها. فالنزاع يدور بين مهانين. فأوكرانيا تشعر بوطأة الهيمنة الروسية منذ وقت كبير وترى انها رهينة التنافس بين اوروبا الغربية وروسيا، والاحتجاجات الاجتماعية في ميْدان هي عَرَض اجتماعي لهذه الحال. ومهانة روسيا جيو- سياسية. فعند انهيار الاتحاد السوفياتي بين 1989 و1991، وعلى رغم ان روسيا لم تهزم عسكرياً، فرض عليها سلام بارد وأقصيت من القرار العالمي. وتوسع حلف شمال الأطلسي في جوارها والاتحاد الأوروبي. لذلك، ترتفع اليوم شعبية بوتين «الاستيلائي»، ويرى الروس ان حوادث القرم وأوكرانيا هي ثأر من ظلم التاريخ. ولم تبدد عضوية موسكو في مجلس الأمن الشعور بالمهانة الروسية، وهي تلتزم هناك سياسة عرقلة غير بناءة. وتنظر موسكو بريبة الى مبدأ «واجب التدخل» وترى انه ذريعة الغرب للتدخل حيثما يشاء، ولو على الحدود الروسية في البلقان او في سورية. وقبل الأزمة السورية، لم تكن لروسيا كلمة وازنة في الساحة الدولية.

والاستغناء عن ديبلوماسية التواطؤ والإقصاء كان ممكناً مطلع التسعينات ليفسح في المجال امام بروز عالم جديد. وفي 1989، اعلن غورباتشوف ان الاتحاد السوفياتي لا يشغله التنافس مع الغرب، لكن بيل كلينتون لم يرسِ قواعد ديبلوماسية جديدة وانزلقنا الى عالم ما بعد الثنائية (السوفياتية – الغربية). وعيّن الرئيس الأميركي يومها مادلين اولبرايت وزيرة خارجية، وهي من رموز الحرب الباردة وأوروبا الشرقية السابقة. فهو لم يقطع مع الحرب هذه، والعالم الى اليوم مازال أسير تلك الموازين والقواعد.

وأساءت الولايات المتحدة استغلال تفوقها والثقة الممنوحة إياها، وتجلت هذه الإساءة في بروز تيار المحافظين الجدد. ولزم مجموعة السبع 9 أعوام قبل الإقرار بمكانة روسيا والارتقاء الى مجموعة الثماني، اي تشريع ابوابها امام موسكو.

واليوم العالم مترابط، والتنافس «الخام» بين القوى لم يعد ممكناً. فأمن كل بلد مرتبط بأمن الدول الأخرى. وصار مفهوم القوة بائتاً. ولم يعد الأمن سياسياً- عسكرياً فحسب، وصارت التحديات الاجتماعية الدولية وازنة كذلك. فالجوع في العالم فتاك مثله مثل هجمات 11 ايلول (سبتمبر).

وكان المصرف الاستثماري غولدمان ساكس اول من استخدم اسم مجموعة دول «بريكس» للإشارة الى القوى الاقتصادية النامية. وفي 2009، دار كلام بوتين على هذه القوى في مؤتمر إيكاترينبورغ. ومذذاك صار المؤتمر سنوياً، وقوة «بريكس» ارست نموذج قوة جديداً، وقطعت مع شكل النفوذ المرتبط بإقليم متصل. فهي موزعة على اربع قارات في آن، ولم تعد الحدود سداً منيعاً يحمي من الخارج. والغلبة ستكون لمن يدرك ذلك.

الصين اليوم هي اكثر من «يصدّر» الطلاب الى العالم، ويعود هؤلاء الى بلدهم مسلحين بمعرفة ثنائية (غربية وصينية). والغرب اذ يبقى اسير حدوده يغفل العالم الأوسع. وعلى رغم رفعه لواء قوة «بريكس»، يدعو بوتين الى تكامل إقليمي متصل، ومشروعه أوراسيا هو مرآة هذا التناقض. والتاريخ شاهد على ان روسيا تلتفت الى الشرق حين تُقطَع جسور الغرب معها. وأبرز انجازات بوتين ارساء محور موسكو – بكين، إذ يمكنه الاعتماد على الشرق اذا توترت علاقاته بالغرب.

والتزمت بكين الصمت ازاء ضم موسكو القرم، على رغم ان مسألة وحدة ارض الدولة حيوية في الصين. وأعلنت انها لن تساهم في إحكام طوق العزلة على روسيا. وتلكأت أوروبا في مد اليد الى اليونان والتعاضد معها، فارتكبت خطأ استراتيجياً إذ ان نجاة الكل رهن بنجاة الأضعف.

والتدخل الفرنسي في افريقيا يتحدر من نظام قديم. وترحب الأنظـــمة الديكـــتاتورية الإفريقية بهذا التدخل الذي يضمن لها دعم فرنسا والغرب. ولا شك في ان الماليين انتُشِلوا من خطر لا يستخف به. ولكن ما الذي يسوّغ التدخل ومَنْ يتدخل؟ وكيف يحـــول التدخل في مالي دون وقوع أعمال إرهابية في فرنسا؟ ثمة إجماع لدى اليمين الفرنســـي واليسار على مسؤولية فرنسا التدخل في افريقـــيا، ولكن عن اي مسؤولية يتكـــلمون؟ فهل كل قوة كولونيالية ملزمة بالتدخل في مناطق نفوذها السابق؟

المنطق هذا يسوّغ تدخل البرتغال في أنغولا والبرازيل، وبريطانيا في كينيا، ولمَ لا روسيا في أوكرانيا؟ ومبدأ مسؤولية التدخل هو من أعراض إخفاق النظام الدولي، فمجلس الأمن لا يملك جيشاً خاصاً به. وكل عملية توصف بـ «المتعددة الأطراف» ليست سوى ستارة تسدل على تدخل عدد قليل من الدول. ولن تتدخل هذه الدول في سورية حيث الوضع يتفاقم، وبشار الأسد راهن على تعاظم النزاع وسوء الأوضاع، وتلطى وراء مبدأ السيادة ورفض تدخل القوى الخارجية، فصار في موقع منيع. وأمل السوريين الوحيد هو المفاوضات، لكنها اليوم تقصي محاورين لا غنى عنهم مثل «الأسد» وإيران وروسيا، وتبدّد فرص النجاح. فجلسة الحوار تدور بين مجموعة مغلقة ولا تنفتح على الآخر.

* أستاذ فــي سيانــس بو، صاحب «زمن المهانين والأذلاء»، عن «ليــبيراسيون» الفرنسية، 26- 27/4/2014، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى