دير الزور.. الهروب من الجوع إلى الذل/ حذيفة فتحي
ما أن تنتهي سيجارته، حتى يشعل أخرى. شرهه للتدخين، يُظهره وكأنّه يعيش ساعاته الأخيرة. يقول خلدون: “سيجارة الحمراء الطويلة، كنتُ أشتريها بـ200 ليرة، وللحصول عليها، أقفُ في طابور مكوّن من 300 رجل، غيّر الجوع ملامحهم”.
يُحاول خلدون، الذي استطاع الخروج مؤخّراً من حيّ الجورة بمدينة دير الزور، إخفاء عظام وجهه البارزة، باصطناع ابتسامةٍ، تكشف عن أسنانٍ صفراء، كلون بشرته الشاحبة. يحمل خلدون بيده علبة السجائر، ويستعيد بثقةٍ ذكرياته المؤلمة: “الحصول على هذه العلبة، كان يُعدّ حلماً. في فترة الحصار، كنتُ أدخّن نصف سيجارة صباحاً، وأطفئها بهدوء، لأستمتع في المساء بما بقي منها، برفقة الحرّ والظلام”.
“مجاعةٌ” بإشراف النظام والتنظيم
أكثر من 7 شهور مضت، وحيّا الجورة والقصور يخضعان لحصارٍ خانقٍ، يفرضه تنظيم “الدولة الإسلامية” على نحو 300 ألف مدنيٍّ تتحكّم بمصيرهم قوات النظام، وميليشيات “جيش العشائر” و”الدفاع الوطني”. حصارٌ مزدوج، أودى حتى الآن بحياة أكثر من عشرة أشخاصٍ بينهم أطفال، نتيجة نقص الغذاء والدواء.
قصصٌ مرعبة، تنقل جانباً من يوميات “المجاعة” التي يُعاني منها السكّان، والتي بدأت فعلياً في شباط/فبراير 2015، بعدما أغلق تنظيم “الدولة” جميع الطرق البريّة والمعابر النهرية المؤدّية إلى المنطقة.
كرم، شابٌ في منتصف العشرينيات من العمر، خسر نحو خمسة وعشرين كيلوغراماً من وزنه، بعدما بات غذاؤه الرئيسي مقتصراً على بعض الحشائش كالملوخية والسبانخ، وقليل من الخبز والزعتر، وهو حال أغلب العائلات هناك، نتيجة نفاذ المواد التموينية والغذائية من الأسواق، وبلوغها أسعاراً خيالية إن توفّرت (كيلو السكّر: 4000 ليرة، كيلو الرز: 2500، علبة الساردين: 1000، لتر الزيت: 4500، كيلو البصل: 3000، كيلو اللحم: 7000 ليرة)-الدولار بحدود 300 ليرة سورية.
واقع يبدو أنه سيستمرّ إلى أجلٍ غير معلوم، لم يدفع بقوات النظام لتحمّل مسؤولياتها في تخفيف أثر الحصار، وتأمين متطلبات الأهالي الأساسية. فاكتفت لمراتٍ قليلة، وعبر طائرة الشحن العسكري، بنقل بعض المساعدات الإغاثية من مطار دمشق إلى مطار دير الزور. تلك المساعي توقفت منذ شهرين، بذريعة أنّ تنظيم “الدولة” أصاب الطائرة بقذائفه، وهي رابضة فوق أرض المطار، في الوقت الذي تستمرّ فيه عمليات نقل الأسلحة والذخائر إلى مختلف الجبهات، وعبر المطار ذاته.
طريق الذُّل
“لسنا تابعين للعراق، فدير الزور محافظة سورية تقع على مسافة 450 كيلومتراً شمال شرقي العاصمة دمشق، وفيها يُنتج 70 في المئة من النفط والغاز السوريين”. بحسرةٍ، أبدى أبو عامر استياءه من الحال الذي آلت اليه مدينته، مُتّهماً قوات النظام بأنها تشترك مع تنظيم “الدولة” في تضييق الخناق على المدنيين وإذلالهم، وذلك بقصد “تطفيشهم لكي يغادروا، مُقابل الحصول على مبالغ مالية كبيرة، وسرقة منازلهم وممتلكاتهم، إضافةً إلى محاولة النظام إظهار نفسه في موقع الضحيّة المُحاصرة التي لا حول لها ولا قوّة، باستثناء جبهات القتال”.
قبل شهرٍ من الآن، لم تكن قوات النظام تسمح بمغادرة أي شخصٍ خارج حيي الجورة والقصور، سواءً عبر الطرق البريّة، أو باستخدام الزوارق النهرية، واقتصرت المغادرة على الطيران العسكري فقط، بعد أن يتمّ الحصول على موافقاتٍ أمنية، ودفعٍ مبالغ قياسية لضبّاط النظام، وصلت إلى 250 ألف ليرة. مؤخّراً، تغيّرت هذه القوانين، فغادر آلاف المدنيين إلى مناطق سيطرة تنظيم “الدولة”، لقاء دفع مبلغ 50 ألف ليرة عن كلّ شخص. أحد ساكني حي القصور، اضطرّ لمبادلة سيارته الخاصة بـ3 شوالات من السكّر، وباع الواحد منها بـ150 ألف ليرة، في سبيل الخروج من هذه “المجاعة”.
لا تنتهي فصول المعاناة بمجرّد عبور آخر حاجزٍ لقوات النظام. 7 كيلومتراتٍ مشياً على الأقدام وتحت شمسٍ حارقة، هي الحدود الفاصلة بين المُحاصِرِ والمُحاصَر. كالمُفترس في انتظار فريسته، يستقبل عناصر حاجز التنظيم أولئك الخارجين من “دار الكفر”، لتبدأ بعدها رحلة الاستجواب والتفتيش والإهانة. يتمّ تجميع الواصلين في منطقة “عيّاش”، ويُنقلون بسياراتٍ مكشوفة إلى مدرسةٍ في مدينة معدان بريف الرقة الشرقي. في انتظار وصول “الأمير” للبتّ في أمر الدفعة الجديدة، يُمارس عناصر التنظيم هواياتهم في تمزيق دفاتر الخدمة العسكرية للشبّان، ومُصادرة شهاداتهم وبطاقاتهم الجامعية.
“ما عاد يلزم تروح على شعبة التجنيد مشان تاخذ تأجيلة.. سرّحناك من هين يا شيخ! وشهادة الجامعة اللي صارلك سنين تدرسلها.. شنو استفدت منها؟ روح جاهد في سبيل الله!”. بلهجةٍ ريفية ومظهرٍ “داعشي”، يقول هذه الكلمات أحد العناصر المحلية في التنظيم، ويقف خلدون أمامه بلسانٍ معقود، وضحكةٍ مصطنعة، في انتظار انتهاء المسرحية. يصل “الأمير” المُنتظر، ويُقرّر اطلاق سراح خلدون ومعه آخرون، بينما تُنقل أعدادٌ قليلةٌ إلى مقرّات “الحسبة” في مدينة الرقة، أو إلى مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي، لاستكمال التحقيق معهم، للاشتباه بوجود علاقاتٍ سابقة تربطهم مع النظام. البعض الآخر، يتمّ التحفّظ على بطاقات هويّاتهم الشخصية، إلى حين الخضوع لـ”دورة شرعية”، والنجاح في امتحانها.
ممارسات التنظيم بحقّ الهاربين من الجوع، كبحت جماح مَن أرادوا الخروج من الحيّين، وباتوا ينتظرون حدوث معجزة تُعيد لهم قليلاً من الأمل.
أقلّ بقليل من 300 ألف مدنيّ، معظمهم من النساءٌ والأطفال، أنساهم الجوعُ غيابَ الكهرباء المستمرّ منذ شهور، كما أنهم اعتادوا شرب المياه غير المعقّمة، التي لا يرونها سوى لبضع ساعاتٍ كلّ يومين، رغم الأمتار القليلة التي تفصلهم عن نهر الفرات. أنساهم الجوع، رائحة غاز الطبخ، بعد أن احترفوا استخدام الحطب. هؤلاء الموجودون المُغيّبون، لا يهتمّون، أو حتى لم يسمعوا، بوجود عشرات الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي، تُتاجر باسمهم، وتدّعي نقل معاناتهم، لتصل إلى هدفها في تأمين مُمَوّلٍ مُقتدِر، كونها سلكت طريق إدانة و”كشف” ممارسات تنظيم “الدولة” التي لم تعد خافية على أحد.
“لا تُصدّقوا ما تسمعونه من أخبار.. عن جوع دير الزور، عن العطش، عن الغلاء، عن بكاء الأطفال، عن نحيب اليتامى، عن الظُلم، عن الظلام. لا تُصدّقوا أحداَ أيّاً كان المصدر. الوضع أعظم وأسوء بكثيرٍ عمّا يصفون”، يقول أحد المُحاصَرين، في غفلةٍ من ليل دير الزور الحالك.
* الأسماء الواردة هي مستعارة، حفاظاً على سلامة أصحابها الحقيقيين.
المدن