دير الزور.. معركة الغنائم ورسم المعادلات/ زهير حمداني
تأتي المعارك المحتدمة في دير الزور السورية ضمن سباق جيوسياسي بأدوات عسكرية، قيّض لها أن ترسم نهاية تنظيم الدولة الإسلامية وخواتيم الصراع على الثروة النفطية والمعابر الإستراتيجية مع العراق، وتحدد ملامح سوريا المستقبلية والإقليم بشكل عام.
فبعد أن خفتت المعارك التي كانت مستعرة في معظم أرجاء سوريا -بما فيها الرقة- في انتظار حلّ سياسي وتوافقات لم تتضح معالمها بعد، بقيت دير الزور (شرقي سوريا) بؤرة مشتعلة ومضمار سباق رئيسي بين أطراف الصراع.
والمحافظة -التي تبلغ مساحتها نحو 33 ألف كيلومتر مربع، وتشكل 17% من مساحة سوريا- تعد خزانا غنيا بالموارد النفطية والغاز، إذ تحتوي على نحو 40% من ثروة البلد النفطية وفق بعض التقديرات، إضافة إلى أنها موطن الزراعات الإستراتيجية الكبرى من القمح والقطن وغيرها.
وتلاصق دير الزور محافظة الحسكة من الشمال ومحافظة الرقة من الشمال الغربي ومحافظة حمص من الجنوب الغربي، مما يجعلها منفتحة على وسط سوريا (البادية والقلمون الشرقي)، وعلى الشمال الشرقي والشمال الأوسط.
وانحصر الصراع على المحافظة بين قوات سوريا الديمقراطية المسنودة أميركيًا، وقوات النظام وحلفائه بإسناد روسي، وتنظيم الدولة الذي تلاشى في الرقة وبقيت مراكز نفوذه الأخيرة في بعض أحياء مدينة دير الزور وبعض أرياف المحافظة في الشمال والشرق، خصوصا مدينة البوكمال الحدودية بعد فقدانه الميادين لفائدة قوات النظام.
المعقل الأخير
وعلى غير المتوقع، لم تكن الرقة -عاصمة “دولة الخلافة”- المعقل الأخير لتنظيم الدولة، فقد حسم التحالف أمر عاصمة البغدادي عسكريا وباتفاق مع تنظيم الدولة، وذلك بالتزامن مع اشتداد معارك دير الزور واقتراب قوات النظام من الضفة الشرقية لنهر الفرات، وهو ما رأت فيه روسيا “مؤامرة” أميركية تستعمل فيها تنظيم الدولة لإبطاء قوات النظام وحلفائه في معارك دير الزور.
وعمليا لم يعد لتنظيم الدولة وجود مركّز على الأراضي السورية إلا في بعض أحياء مدينة دير الزور ومواقع في ريفها الشرقي والشمالي، ويبقى معقله الرئيسي في مدينة البوكمال على الحدود العراقية، إذا ما استثنينا مفارز في مخيم اليرموك والحجر الأسود في دمشق ومحافظة درعا (جيش خالد بن الوليد).
وبانتهاء هذه المعارك في دير الزور -وخاصة في البوكمال- سينتهي تنظيم الدولة وجوديا في سوريا. ومع تقدم القوات العراقية صوب مدينة القائم، ستكون نهاية “دولة الخلافة” التي سيطرت في وقت ما على أكثر من 60% من أراضي العراق وسوريا وعلى جزء كبير من ثرواتهما.
وإن كان الهدف الرئيسي من العمليات التي تشنها قوات النظام وروسيا أو التحالف الأميركي الكردي هو إنهاء تنظيم الدولة، فإنه يخفي وراءه أهدافا عديدة أكبر وأثمن، أهمها السيطرة على الثروات النفطية والحدود.
النفوذ والثروة
فالولايات المتحدة دفعت بقوات سوريا الديمقراطية ضمن حملة “عاصفة الجزيرة” إلى التقدم في شمال دير الزور وشرقها، والسيطرة على حقول النفط. وبعد سيطرتها على حقلي “العمر” و”التنك” باتت تسيطر على حوالي 80% من احتياطيات النفط السورية وفق بعض التقديرات.
وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية أيضا على أكثر من 150 كيلومترا على طول الحدود مع العراق، تمثل مناطق حيوية وإستراتيجية بما فيها المعابر، كما أمنت خطوط إمداد لها نحو الجنوب والجنوب الشرقي باتجاه البوكمال على الحدود السورية العراقية.
وتستهدف هذ القوات أيضا البوكمال، حيث أعلن المتحدث الرسمي باسم التحالف الدولي رايان ديلون، أن قوات التحالف تعد هجوما على المدينة، وهي الهدف الرئيسي لقوات النظام، وهو ما يعني أن التسابق يبقى على أشده بين أطراف الصراع.
وتسعى واشنطن إلى استخدام هذا التقدم والسيطرة على منابع النفط ورقة ضغط ميدانية حال التفاوض مع النظام السوري وروسيا حول خريطة التسويات العسكرية والسياسية بينهم، كما تسعى لتقزيم النفوذ الإيراني ومنع التواصل الجغرافي لما يسمى “محور المقاومة”.
ويبدو أن أهمية دير الزور وتسارع الوقائع الميدانية على الأرض أدت إلى كسر تفاهمات وخطوط حمراء بين الولايات المتحدة وروسيا، كانت تقضي بسيطرة قوات النظام على الجزء الغربي من نهر الفرات وقوات سوريا الديمقراطية على شرقه.
من جهتها، تسعى روسيا إلى إعادة بسط سيطرة النظام السوري على حقول النفط والغاز الموجودة في محافظة دير الزور، بما فيها تلك الواقعة شرق الفرات، بما يضمن مصالحها الاقتصادية في سوريا بعد أن رتبت أوراق وجودها العسكري من الساحل السوري إلى حمص وحلب.
وفي ضوء تناقض المصالح بين الطرفين، قد تأتي مرحلة ما بعد تنظيم الدولة في دير الزور بصراعات أخرى بين قوات النظام وروسيا، و”قوات سوريا الديمقراطية” وحليفتها الولايات المتحدة على الحقول النفطية ومصادر الثروة الأخرى.
ويمتحن سير المعارك الحالية التفاهمات الروسية الأميركية، حيث تقول مصادر مقربة من النظام إن المعركة المقبلة ستكون ضد قوات سوريا الديمقراطية، من أجل استرجاع حقول النفط الكبرى التي سيطرت عليها بعد انسحاب تنظيم الدولة منها بتنسيق واضح بين الطرفين، بحسب تأويلهم.
معركة المحاور
وتبقى الحلقة الإستراتيجية الأهم بالنسبة للنظام وحليفه الإيراني في معركة دير الزور المحتدمة هي ضمان التواصل الجغرافي بين أطراف ما يسمى “محور المقاومة”، فالمحافظة تلاصق محافظتين عراقيتين (نينوى والأنبار)، وهي المعبر الجغرافي الأبرز بين البلدين.
وتعني سيطرة قوات النظام على البوكمال -إن حصلت- فتح بوابة إستراتيجية بين إيران والعراق وسوريا عبر البادية (دير الزور وحمص) وصولا إلى لبنان وحزب الله، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة وتسعى لإجهاضه، خصوصا بعد فشلها في منع هذا التواصل في المعارك حول معبر التنف على الحدود المشتركة مع الأردن قبل أشهر.
ويمكن فهم توقيت المعركة التي أطلقتها القوات العراقية وفصائل الحشد الشعبي على مدينة القائم
المحاذية للبوكمال السورية -وهي المعقل الأخير لتنظيم الدولة في العراق- في إطار التنسيق بين دمشق وطهران وبغداد وحزب الله لجعل التواصل الجغرافي أمرا نافذا.
ومهما يكن الرابح في الصراع الراهن على المحافظة ومنافذها وثرواتها، فإن ذلك ستكون له انعكاساته على صراع الإرادات القائم بين روسيا والولايات المتحدة، ببعده الإقليمي والدولي وعلى التوازنات الإقليمية وفي مسارات التسوية المستقبلية بسوريا والمعادلات الجديدة للصراع؛ أكثر من أي معركة أخرى في سوريا.
المصدر : الجزيرة