ديــر الــزور
لينا شماميان
محطتي التي مررتُ بها منذ ثلاثة أعوامٍ، وما زالت تسكنني لليوم بعد أن حمّلتني خشوع أرواح قوافل مرت بها، يروي بعض قصصها تراب مرقدة الممزوج بعظام راقديه، ويروي الفرات وأهله – أخوالنا ـ قصصا لا ندرك كثيرها حتى اللحظة.
كنتُ قد اعتقدتُ آنذاك أن حفلي الموسيقي فيها سيكون تقليديا، لكنّها ما لبثت أن غيّرَت فيَّ شيئا إلى الأبد شعرتُ بأن لا بد لي من مشاركته باسم كل من كان له تاريخان، وقصتان، وثقافتان علمتاه الحياة من قلب الموت.
لطالما سُئلتُ: ماذا تشعرين كونكِ تنحدرين من ثقافتين، سورية وأرمنية؟
كل مرة كان جوابي مختلفا، لكني للصدق لم أعلم أو أميز يوما، فأنا لا أدرك لّلحظة الحد الفاصل بينهما كوني أعيش بهما، فغالبا ما وحَّدَتني الثقافتان أو وحُّدتُهُما أنا بداخلي دون أن أعلم، لكني اليوم أدركتُ أن مصاب أحدهما هو ما يطغى عليّ بالفكر والروح، حتى يعود سليما؛ فأعود بدوري كي أتوازن.
شعرتُ بأن ثقافتي الأرمنية تبلسم ألمي السوري، وكان لا بد لي من مشاركة هذا مع شعبيّ باسم وحدة الألم والمصير.
كوني أنتمي إلى الثقافتين، أعلمُ تماما أن الكثيرين لا يفهمون سبب تكرار الأرمن اليومي لقضية المجازر، حيث يرى الأغلبية في الحزن الأرمني انغلاقاً يثير الاستهجان فيما يخص الإصرار على قضية المذابح، ينحدر غالبا من مبدأ لطالما قيل لي قد مرّت على المجازر مئة عام تقريبا، وكل البشر بمن فيهم نحن كان لهم تاريخٌ دامٍ، أما آن لكم أنتم الأرمن أن تدعوا التاريخ يمضي كي تعيشوا الآن بسلام كما فعلنا نحن؟
تخطر لي دوما جدتي من أمي السريانية، التي طالما روت لي عن مذابح السريان وهروب والدتها من (العصملّيّة)؛ وحكايا جدي عن فظائع (السفر برلك) وحزنه أنها نُسِيَت، وكم يمزقني أن تلك المذابح اليوم باتت مكتومة بعد رحيلهما إلا في رأسي ورؤوس الأحفاد أمثالي، فليس هناك أي حق في السكوت عن الظلم! نحن لا نريد أن ننسى كي لا تتكرر المذابح، عسى يتوقف القتل على الهوية على الأرض ذات يوم.
أما اليوم، فاختلف جوابي وطال: فقد صرت أعلم أنني أصبحتُ الإنسان الذي أنا عليه لأنني لم أتمكّن إلا من فعل كل شيء بجودة استثنائية كرمى لأرواح من استشهدوا كي أعيش أنا بحال افضل، وجعلوني بهذا الأوفر حظا.
كان أرمن الشتات لاجئين إنسانيين في كل الأرض، وقد اختاروا أن يلتفوا على بعضهم كي يعيشوا. فكل أجدادنا كانوا ناجي إبادة عرقية، لم يختاروا الانتقام والدم، بل اختاروا مواجهة الحديد بالحياة والوفاء لمظلوميهم.
اختار من بقي من الأرمن حرب البقاء بدلا من حرب الدم، ورغم كل مسافات الأرض بينهم وحّدوا كلمتهم بألا يظلموا قضيتهم ـ وإن كانوا المحارب السلمي الوحيد فيها إذ سُلبت خياراتهم الأخرى-، وبهذا لم يُنسَوا ولن يجرؤ أحد على إلحاق مذبحة أخرى بأبنائهم، وها قد بدأ الاعتراف الرسمي بحقوقهم وإن بعد مئة عام.
وأنا حين بدأتُ الغناء عايشتُ بعمق هذه الثقافة التي لا أعلم لليوم كيف وصلتني، فأنا لم أتلقها يوما بالكلام، لكني عايشتها بعمق، حيث شعرتُ بأن الحريّ بصوتي أن يكون صلاتي باسم كل الأصوات التي كُتمت.
إن أردتَ أن تسألني اليوم لمَ تحتفلون بعيد شهداء المجازر الأرمنية؟ أقُل… لا لأنني أريد الثأر أو الانتقام، بل لأني أرفض الموت ونسيان إرثٍ إنساني لشعبي الذي ظُلِم.
قد مررنا من هنا.. ولن نفنى، وفي عيد الشهداء فليكن جلّ ما نريده أن يتوقف سقوط الشهداء.
لينا شماميان
السفير