صفحات الثقافة

ديــر الــزور .. ســوق الظــلام


سهيل نظام الدين

1 ـ

تدور عدسة المصوّر الشاب حول لهاثه، السخام يملأ المكان، في الخلفية دائما أصوات رصاص وقصف فهذه دير الزور، أعمدة دخان سود تتصاعد من مخازن الصوف والحنطة المحترقة، في منتصف دورته تلتقط يد الشاب المهتزّة بقايا نصب بناه حافظ الأسد ليخلّد ذكرى ابنه البكر في مدينة لم يصل إليها أي منهما، وتغيّر بوجوده اسم المكان من ساحة التكاسي إلى ساحة الباسل، حتى أزاله المتظاهرون في بدايات الثورة، ووسموها باسم حبيبتهم الصاخبة «الحرية».

تنعطف الصورة نحو فندق قديم متفحم ، قبل أن تكتمل بحطام السوق العتيق وبقايا أثر العابرات بحثاً عن «زهاب العروس» تحت سقفه الأثري الذي حوصرت روائح الجلود والسمن البلدي وموسيقى قرقعة سوق الحدادين، ودلال قهوة مزعل الشهيرة بين انقاضه، يحوقل الشاب وهو ينعى اكثر من قرن من الحياة.

2 ـ

للدير، كما يسميها السوريون بما ينصّبها مطلق كل مكان يبدأ اسمه بـ«دير» في البلاد المدماة سطوتها الخاصة بين فرادات سوريا التي لا تنتهي، هنا يبدأ التمرد من أسماء الشوارع والحارات والأعياد والمجانين، انتقام عام من الدولة حيث لم يعد الفارق بينها وبين نظام نفاها من الخارطة موجودا، لا مصلحة يخاف الديريون فقدانها ولا معنى للسلطة البعيدة المتثاقلة الخاملة سوى بانتفائها.

مدينة سمّت أشهر شوارعها «ستة إلا ربع» وعاندت كل محاولات تنميقه بألقاب «حضارية» تناسب مزاج من يكاتبون دمشق الرسمية طالبين تمويلا لتجميله يعرف الديريون كغيرهم من السوريين أنه سيسرق بأي حال.

3 ـ

قبل أن يعترف بشار الأسد بنفسه أنّ الثورة كانت سلمية في أشهرها الستة الأولى، كانت دير الزور شريكة في صورتها القصوى، تانغو مليوني مع حماة الذبيحة مراراً أدخل سوريا في مواقيت المظاهرات الجرارة. كان شهر رمضان أيضا حين سحقت الدبابات «السلمية» في المدينتين، فثارت قوة من نوع آخر على تخوم سوق الظلام. تشبثت السلمية الممزقة بالحارات الضيقة وجنازات الشهداء الكبيرة حين أرسل الجيش مجنزراته وقذائفه إلى رمزية ساحتي الحرية والمدلجي، قبل أن تنفلت القسوة إلى حصار وقصف أثقل فأثقل أكل ملامح المدينة وطرد روحها إلى مناف تشتد فيها حسرة الشوارع الخالية إلا من أسمائها الغريبة.

خرجت الدير من نفسها، ترامت في بيوت الجيران والمدارس والحدائق، وتحت قائلة الانتظار، كان موتاً يحفه الشهود، وأسماء تحولت الى كثبان رمل صغيرة في أحواش الجوامع والكنائس.

لكن المدينة كما غيرها، سكنها إدمان الشماتة، وصار حطام الدبابات تسلية انتقام لعجز البيوت المدمرة. المنفيون طوعا وقسرا يتلذذون بوجبات الحديد المحترق، وبيانات الكتائب غير المؤكدة من عناوين الخراب الذي تنثره المدفعية فوق الجبيلة والعرضي والعمال والشيخ ياسين والمطار القديم. وبات «النشامى»، وهو الاسم الحركي الجديد لأكثر من مليون ونصف المليون من وجوه الغضب وراء بادية الشام، يمدّون سوريا التي طالما اتهموها بتجاهلهم بالملمس الخشن للثورة حين غرق ناعمها بالدم.

4 ـ

سوق الظلام ثانية، طبعة شرقية لمنطق البيع والشراء تحت خيمة الاستطالات الملتوية والهواء المختمر برائحة البضائع والحلفانات المغلّظة بلهجة ناتئة تعلم السوريون قدرتها الفائقة على السخرية كلما احتاجت لغة الثورة أوصافاً «تبرد القلب» بمن يدمي القلوب.

المكان ليس شهيراً عند الغرباء كالجسر المعلق، هو سرّ من أسرار الدير التي تحاول إفشاءها ولا تجد من يسمع كأنه قدر لعاصمة الشرق أنّ تظل معلقة على حبال شدّتها فرنسا بين الجزيرة والشامية، لتظل الدير عالقة في صورة جميلة تستر عمدا وجها جدّرته عقود من القطيعة من حاضر لم يصل منه إلا فساد مبارك بكل قوة الدولة.

هو أيضاً، واحد من أذرع المدينة الممتدة سترا إلى ظل جسدها الممتد على طول الفرات، حتى ملامح البوكمال العنيدة شرقا، وخرائب حلبية زلبية التي تشبه روح الدولة النخرة شمالا، وتخوم قصر الحير غربا. صورة موحسن الأصيلة في واجهة الدير، حيث يختلط اليسار القومي بالحنين المستور الى اقطاعيات التسامح، والمعتقلات بالرتب العسكرية، والقبلية بالمدنية، والصوفية بالماركسية اللينينية، والجدل المثقف المتعالي ببساطة الثأر القاتلة.

سماء أبو علاوي المفتوحة لاسماء فئة جديدة من الأبطال وصيد الطائرات، واختصار الحياة الى دقيقة يوتيوب لا يكفي لنحنحة مغني الدبجة، أيام كانت الأعراس هي منفذ الكلاشنكوف الوحيد الى الأسماع والأبصار.

5 ـ

الدير تستمع بصفع النظام بكل ما تملك، هي أيضا حمص وحماة ودرعا وإدلب بنزق مضاعف، أخرج دفعة واحدة كل ضغائن ثمانينيات القهر، وتسعينيات انفتاح اللصوص، وألفية اقتصاد السوق الاجتماعي الذي قوّض استقرار اقتصاد الاواني المستطرقة بين المدينة وريفها في سوق الظلام واخوته.

وفي ثورتها كانت ولا زالت تواجه اختبار الصورة ، هنا لا يوجد تشويق إضافي وخطوط توتر عريقة وطارئة، مشهد نمطي لثورة عصاة مدمني رفض سلبي تواجههم قوة كاسحة تغرق في متوالية فشل تكلفها مزيدا من التمرد الفعلي الموجه بانتظام صبغ سريعا ساحة المدلجي الهامشية بزحام بشر مدينة كاملة.

كان لا بد في مرحلة ما من «ديرنة» الحراك؛ فالثورة أيضا انتظام لرمزيات الحضور في ساحات الحدث، ولأنها في أحد وجوهها ازدراء متعمد وتطهري لحقبة خوف لم يعد له ما يبرره، فقد صار ما ساقته سخرية أبناء المدينة اللاذعة على صفحات الفيسبوك أشبه بعلامة مميزة وحصرية، تعممت في أنحاء المجتمع الافتراضي السوري بفعل لغة الشماتة، قبل ان يرفع أحدهم على ارض الواقع «كلاش ديري» عملاق في إحدى المظاهــرات، وتدخل المفردة إلى عالم الاسلحة التي لا مضادات لها، تماما كالنكتة الحمصية والجوفية الحورانية وغيرها.

لم يكن الشاب الذي يدور في ساحة الحرية بكاميرته المخصصة عادة لتصوير أطفال يتقافزون في الصالة او المسبح يبحث عن مشهد مؤثر وموثق لأثر اربعين يوما من القصف على دير الزور قاربت الشهرين الآن فقط ، صوت «شحشطته» المتعبة على نثار الأبنية وشظايا القذائف والصواريخ كان يكفي للابلاغ عن الدمار. لعله يستجمع من سخام فندق الأمل هدير مئات الآلاف وهم يحاكون الموجة الحمــصية «جنة جنة جنة»

كان ذلك قبل أن يسقط السقف على الظلام.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى