ديموقراطية الاستبداد/ فجر يعقوب
يــــدخــــل الإعـــلان التلفزيوني في تطور غير مسبوق، حتى تكاد تبدو معه «تنظيرات» المعلمين الكبار شأناً يمكن الاختلاف عليه. كل تلك الكتابات صارت بحاجة الى اعادة تأهيل، ذلك أنها بقيت تراوح مكانها ولم تتكيّف مع الثورة المعلوماتية غير المسبوقة في تاريخ البشرية التي جمعت جهات الأرض في بساط تقني واحد. لا يمكن الزعم أنّ أفلاماً تصدّت للتلفزيون واشكالياته الكثيرة، وفي صلبها الإعلان التلفزيوني. كلّ بلد لديه مئات آلاف الإعلانات التي تنتقل للمشاهد بسرعة برقية. وكل مواطن صار يملك، وحده، في مخيلته اليومية عشرات الاعلانات التي قد تجذبه وتغيّر من طريقة حياته، لا بل يمكن القول إنها تغير في سلوكه وذائقته وتمنحه الشعور بالاستقلالية الزائفة التي قد تدفع في نهاية المطاف الى «الانسان ذي البعد الواحد» الذي حذّر منه علماء كثر.
تبدو اليوم قصة هذا الانسان مع الاعلان أكثر تعقيداً من ذي قبل. ثمة ما يدور غير بعيد منه. يكفي الدخول الى موقع «يوتيوب» للتواصل الاجتماعي بحثاً عن مقطوعة موسيقية، أو أغنية، أو فيلم حتى يفاجئ ذلك التحذير الذي يقول إنّ في وسع المشاهد تجاوز الاعلان بعد أربع ثوان وبلغة البلد الذي يبث فيه «يوتيوب». ثمّة إعلان تصل دقائقه الى 18 دقيقة، وهو الاعلان الذي يتسابق اليه المعلنون عبر هذا الموقع الشهير، وقد فاقت فيه المتابعات كلّ التوقعات. اليوم، يُدرك القائمون عليه (يوتيوب) أكثر من أي وقت مضى أنّ الأفلام التي تنتجها الجماعات المتشددة في البلدان التي تقاتل فيها وما يتخللها من عمليات إعدام وذبح وحرق مروعة ترفع من نسب المشاهدات بطريقة غير مسبوقة، وأن في هذا إغراء لا مثيل له لزيادة الإعلانات المدفوعة عبره. قد لا تبدو فكرة واقعية، لكنّ هذا المخلوق الاعلاني العجيب لديه قرون استشعار خاصة به تدفع المعلن والمشاهد الى انتاج آلية تبادلية معقدة للوهلة الأولى، اذ تكفي أربع ثوان للاقلاع عن فكرة المشاهدة، لكنّ الادمان على استراق النظر الى بقية الاعلان في الأيام التالية التي تلي فكرة التجاوز يمكن أن تضفي واقعية أخرى على صعيد الاستبداد الذي تنتجه ديموقراطية المشاهدة. وتثبت الدراسات أن ما يحدث لا يتعدى ديموقراطية الاستبداد التي تقود المشاهد في وجهة مختلفة عن تلك التي شاعت من قبل حين يقوم التلفزيون بتمرير الاعلان من دون الحاجة الى تلك المراوغة في تلقين مشاهده هذه الاعلانات. لم يكن يحتاج الى كل ذلك الذكاء والمرونة ليقول ما يريد. كان يعرف أنه يشوه الثقافة والأفلام والبرامج الجادة بتقطيعها، أما اليوم فيبدو التحذير الذي يطلقه موقع «يوتيوب» أكثر تشدداً في تلقين المشاهد المندفع اليه بهذا المخلوق وتعويده عليه حتى بلوغ مرحلة الادمان.
الحياة