ديموقراطيــة مفرطــة!!
هيفاء بيطار
عدت من باريس يوم عيد الشهداء 6 أيار، بعد ان بقيت في عاصمة الجمال والحرية حوالي شهر، التقيت أخي وأختي والأصدقاء، والأهم انني رممت روحي المتعبة والنازفة كوطني، وشحنت بطارية الأمل التي كادت تفرغ تماما وأنا أعيش في اللاذقية…
حاولت اثناء الشهر الذي قضيته في باريس ان انظر إلى أزمة وطني الحبيب من بُعد، ان أخلق مسافة بيني وبين الجرح، علني أعالجه بطريقة أفضل، اكتشفت ان اللاذقية هي وجهي، لأنني كل صباح حين كنت أقف امام المرآة لأغسل وجهي، كنت أرى اللاذقية…
علاقتي مع اللاذقية تشبه علاقة أم بابنها المعاق، قربه عذاب وبعده عذاب، وكم يؤسفني ويؤلمني ان اضطر للاعتراف ان حياتنا عطبت في جوانب كثيرة، وان طعم المرارة والخيبة يتكثف في أرواحنا…
يهمني ان أتحدث عن تفاصيل عيشنا في سوريا، لأن تلك التفاصيل التي تبدو عادية، ويحلو للبعض وصفها بالتافهة هي التي تشكل نسيج الحياة. يهمني ان أقول انني اشتريت بطاقة الطائرة من دمشق إلى باريس في شهر نيسان 2012 بـ42 ألف ليرة سورية، وان ثمن البطاقة كان قبل ستة أشهر هو 26 ألف ليرة سورية!! وبأنني اشتريت اليورو بـ98 ليرة سورية. وبأن المصرف المركزي الذي كان يقدم خدمة للمسافرين بأنه يحق لكل مسافر حال إبرازه بطاقة الطائرة وجواز سفره ان يشتري حوالي 3000 ـ5000 دولار بالسعر المخفض للدولار، لكن البنك المركزي ألغى هذه الميزة منذ بداية الأزمة السورية… كنت أعي كل يوم أقضيه في باريس انهيار الليرة السورية، وأقاوم غصة قهر لا أنجح في السيطرة عليها…
أكثر ما آلمني شعوري انني ـ وملايين من السوريين ـ صرنا او كدنا نصير من رواد الفضاء، لان السفر لم يعد آمناً إلا في الطائرة، طرت من مطار جبلة إلى دمشق بالطائرة، وعند العودة من باريس اضطررت للنوم في فندق المطار بانتظار طائرة اليوم التالي المتوجهة من دمشق إلى اللاذقية، وبصعوبة قمعت رغبة عارمة في نفسي بالسفر بالباص أو بالتاكسي من دمشق إلى اللاذقية…
يبعد فندق المطار عن مطار دمشق الدولي حوالي عشر دقائق مشياً على الأقدام، لكنني طلبت «تاكسي» بسبب الحقائب الثقيلة التي احملها، وذهلت ان أجرة التاكسي هي 500 ليرة!! وجدتني اصرخ ما هذا الفساد! وتلقيت ضحكة ساخرة من الموظف المسؤول عن شركة سيارات التاكسي في المطار… وأذعنت للاستغلال إذ يستحيل ان اجر حقائبي إلى فندق المطار وحدي…
تذكرت صديقي المهندس الذي يعيش في حلب، والمشرف على هندسة الطرق بين حلب واللاذقية، كان يسافر دوما بسيارته مستمتعا بجمال الطبيعة، يسافر ليلاً او نهاراً لا فرق، قال لي بأنه منذ بداية الأزمة السورية كان يضطر كي يصل إلى اللاذقية ان يسافر من حلب إلى دمشق بالطائرة، ثم يأخذ الطائرة من دمشق إلى اللاذقية لانه لا توجد رحلات جوية يومية من حلب إلى اللاذقية…
يا ريت يوجد اختراع، وهو تركيب أجنحة للمواطن السوري كي يطير من مكان إلى مكان… ومن مدينة إلى مدينة… هل سيصير الشعب السوري مثل طيور السماء! هل سيضطر للهجرة من جحيم الأرض إلى رحمة السماء…
في الطائرة الصغيرة التي أقلتني من دمشق إلى اللاذقية، وقلبي مفعم بالشوق لكل شيء، للأصدقاء والباعة ومقاهي الرصيف، وزعت المضيفة إحدى الجرائد الرسمية على الركاب، صعقني عنوان عريض بالخط الأحمر كلنا مشروع شهداء… وجدتني اصرخ بغضب واستنكار: «لا نريد… لا نريد ان نموت! لا نريد ان نكون شهداء ولا مشروع شهداء… ومن يملك الحق ليحكي نيابة عن الشعب السوري الذي يزيد على 23 مليوناً بأن يكون مشروع شهداء!!
تذكرت مسرحية هنري ابسن «ثورة الموتى»، حين رفض الشهداء ان يدفنوا، وبدأ كل واحد يصرخ معبراً عن رفضه ان يدفن وبأنه يريد ان يعيش ويحب ويتزوج ويستمتع بالعيش… تفجر خيالي بمئات أوراق النعي لشبان في عمر الورود، وقد كتب تحت صورة وجوههم النضرة الشهيد البطل فلان الفلاني!
تفجر خيالي بصورة معارض سوري بارع بالكلام تحول إلى نجم في الفضائيات. يقول بحماسة: والله والله سوف نسلّح أطفال سوريا! بينما هو يعيش حياة ترف في القاهرة، ويرسل أولاده إلى المدرسة الأميركية، أما حرصه على الشعب السوري فهو من وجهة نظره بتسليح أطفال سوريا! ألا يفترض ان يقدم إنسان مثله إلى محكمة الجنايات الدولية! ألا يخجل ان يصرح بأنه يريد تسليح أطفال! ولماذا لا يتفضل ويسلح أطفاله أولاً!!وصلت اللاذقية لتطالعني اللافتات التي تحمل صور المرشحين لمجلس الشعب، كل واحد اختار شعارات طنانة، البعض سيحارب الفقر، والآخر البطالة، واحدهم يذكرنا ان الوطن للجميع… لكن أياً منهم لم يتفضل ويشرح لنا خطته في محاربة الفقر، والبطالة إلى ما هنالك…
استقبلني الأصدقاء بخبر سعيد وهو ان تقنين الكهرباء تقلص دفعة واحدة من 12 ساعة في اليوم إلى ثلاث ساعات فقط… لكنهم دهشوا لردة فعلي الغاضبة، كان عقلي يحسب المبالغ الطائلة التي تقدر بالملايين والتي دفعها المواطنون السوريون لشراء مولدات كهرباء، وبطاريات، ومختلف أنواع الأجهزة لتوليد الكهرباء بسبب انقطاعها 12 ساعة في اليوم… وكنت واحدة من الذين اشتروا مولد كهرباء للمنزل وللعيادة، وتذكرت اللهاث المحموم والمسعور للحصول على مولد للكهرباء… وتخيلت الملايين وربما المليارات التي ربحها التجار والسماسرة من صفقة المولدات الكهربائية… وهكذا وبضربة سحر يتحول التقنين من 12 ساعة إلى ثلاث ساعات فقط!! فهل علينا ان نفرح أم ننفجر من الغيظ!
تبرعات
كنت مشتاقة جدا لعملي، وقصدت مستوصف نقابة المعلمين، وهو مستوصف رائع فيه عيادات طبية ومخبر وقسم أشعة، ووجدت العاملين به متجهمين ومشتعلين بالقهر والغيظ، لدرجة ان بعضهم نسي ان يقول لي الحمد لله على السلامة… وقالت لي إحداهن وهي تمد لي أوراقاً رسمية: تفضلي اقرئي، تفضلي دافعي عنا… سألت: خير ما المشكلة…
لخصت لي المشكلة على النحو التالي: ان العاملين في مستوصف نقابة المعلمين في اللاذقية وعددهم يزيد عن السبعين، كانوا يتأملون ان تثبت عقودهم ويحصلون على وظيفة ثابتة في الدولة، وانهم بعد أكثر من عشر سنوات عمل في النقابة تأملوا ان يتحول العقد السنوي إلى وظيفة ثابتة، وبأنهم أملوا من احد مرشحي مجلس الشعب ان يتبنى قضيتهم، وخصوصا انهم يتمتعون بكل ميزات الموظف، إذ تزيد رواتبهم حين تصدر الزيادة، لكنهم صعقوا حين تلقوا أوراقا رسمية تتحدث إليهم بلغة التهديد والوعيد، والتنبيه والإنذار، وتذكرهم بأن عقودهم ستبقى سنوية، وبأنه يحق لرئيسهم المباشر ان ينهي عقدهم مع نقابة المعلمين في أية لحظة وبمجرد ان يلمس أدنى تقصير منهم… أي ببساطة ان رقابهم في قبضة مدير لا احد يعلم من يحاسبه؟! ولا ماذا يضمر في نفسه؟ ولا إذا كان ينوي طرد موظفين واستبدالهم بموظفين آخرين على مزاجه وحسب منفعته الشخصية…
سألتهم: طيب لماذا لا تلجأون إلى النقابة لتدافع عنكم…
فضحكوا من سذاجة سؤالي وقالوا: نقابة المعلمين هي من أرسلت لنا هذه الأوراق…
اتصلت بالنقيب في اللاذقية، وما كدت ادخل في الموضوع حتى تملص من المسؤولية وقال بأن هؤلاء العاملين يقبضون رواتبهم كتبرعات، ولم أفهم تبرعات مِن مَن؟ وكيف يمكن لرواتب ان تكون تبرعات… وإذا كان عدد العاملين في نقابة المعلمين في اللاذقية حوالي السبعين، فهم بالمئات في دمشق وحلب وغيرها من المدن… ماذا يفعل أصحاب اليافطات في الشارع المرشحين لمجلس الشعب! أتحدى ان يعرف أي منهم بمشكلة هؤلاء المساكين، مشكلة تدخل في خانة اللامعقول… لأنه من المخزي ان تكون هناك رواتب كتبرعات!! وبدل ان تبنى الثقة بين المواطن والدولة ويتم تثبيت هؤلاء العاملين في عملهم، فإنهم يهددون بلقمة عيشهم، وتسلم رقابهم لمدير، حتى ان كلمة مدير صارت تعني تحديداً المرتشي.
استحضر عشرات القصص المشابهة، طوابير من الشبان والشابات يقدمون طلبات إلى مديرية الصحة في اللاذقية ليعملوا كأذنة، آلاف الطلبات تقدم، ووعود في الهواء، وبالنتيجة لا يوظف احد لأنه لا يوجد اعتمادات مالية…
وهل عليّ ان أقول ان هناك مئات الألوف من العمال السوريين في لبنان! لبنان البلد الصغير المثقل بالمشاكل أيضاً، لكنه يؤمن فرص عمل للمواطنين السوريين…
لقد مللنا من الشعارات، نحتاج أفعالاً، نحتاج ان يقدم هؤلاء المرشحون خطة عمل حقيقية ومدروسة لتقليص البطالة، والدفاع عن المواطنين… نحتاج ان نلمس إصلاحات سريعة وحقيقية، نحتاج ان نمشي على الأرض ونسافر على الأرض، ونركب الحافلات والباصات والسيارات، لا ان نطير في الفضاء… لنسافر من مدينة إلى مدينة…
الرحلات والجثامين
كيف أنسى جواب موظفة شركة الطيران السورية حين سألتها ان كانت الرحلة المسائية بين اللاذقية ودمشق ستكون في موعدها ام ستتأخر؟ قالت لي بثقة: لا اطمئني الرحلات المسائية لا تتأخر لان الرحلات الصباحية هي التي تنقل الجثامين، وأحياناً يتم التأخير…
جوابها جمدني وقذفني إلى عالم موحش من الرعب والألم… جثامين لشبان بعمر الورود تنقل بالطائرة، ليسلموا إلى أهلهم لدفنهم… فكرت كيف يمكن لموظفة ان تقول تلك العبارة بمنتهى البساطة، كما لو انها تخبرني عن موعد الرحلة… رحلات صباحية بالطائرة لنقل الجثامين!! عشت لأيام تحت وطأة هذه العبارة التي تعكس أي دمار رهيب حل بحياتنا وبوطننا…
وبعد، يخرج احد المعلقين السياسيين مبتهجا ويقول بأن العملية الانتخابية لمجلس الشعب تمت بديموقراطية مفرطة… وللحال عكس في خيالي صورة رجل يأكل بشراهة حتى تكاد تتمزق أمعاؤه من الإفراط بالطعام… لا افهم كيف يمكن للديموقراطية ان تكون مفرطة! وأي ابتكار في اللغة هذا التعبير!… والله يحق له ان يكون من المبتكرين إذ لم يسبقه احد في استعمال هذا التعبير…
لكن، للحق يقال فإن كل شيء صار مفرطا في سوريا، القتل والألم والتعب واليأس والإحساس باللاجدوى، والغلاء الفاحش، وانهيار الليرة السورية… والإفراط في الطيران إلى السماء، وفي طلوع الأرواح وهجرتها للأجساد… إفراط في الشهداء والقتلى، والمعتقلين… الكلمة الأكثر دقة لوصف الوضع السوري هي حقا الإفراط… انما حتما ومؤكداً ليس الإفراط في الديموقراطية كما تنطح بياع الكلام ووصف الانتخابات.
(كاتبة سورية)
السفير