صفحات العالم

دينامية الثورة السورية


د. صالح عبد الرحمن المانع

يذهب بعض منظري السياسة الخارجية إلى أنّ الأزمات والحروب الداخلية تشبه إلى حدٍ كبير النيران أو الأمراض المعدية، وهي لا تلبث بعد اندلاعها وارتفاع وتيرة شظاياها أن يتطاول لهبها حتى يحرق نوافذ جيرانها. وهكذا كان التصور دائماً للأزمة السورية، وقد لعب مثل هذا التصوّر أو التخوّف دورًا في محاولة مجلس الأمن والسيد كوفي عنان في أن يحدّ من نيران الأزمة السورية الحالية داخل البيت السوري، فلا خوف من احتراق الدار، طالما استطعنا أن نبعد اللهب عن بيوت الجيران.

هذا التحليل، أو المقولة، للسيد عنان وغيره من أنصار استمرار الأزمة السورية، انهار فجأة على رأسه في الأسبوع الماضي حين أسقطت الدفاعات الجوية السورية الطائرة العسكرية التركية. وبالرغم من حدوث مثل هذا الإسقاط داخل المياه الإقليمية السورية، أو خارجها، وعلى أهمية ذلك من ناحية قانونية، إلا أنّ المهم أنّ شظايا العمليات العسكرية السورية قد تطايرت هذه المرة خارج حدودها، وكانت بمثابة استفزاز لقوة إقليمية كبرى. وسبق أن تطاير شرار كتائب الأسد إلى الجارة الضعيفة لبنان، لكن سرعان ما تمّ احتواء ذلك بهدوء، رغم وجود مرجل آخر يكاد ينفجر بدوره على الأراضي اللبنانية.

هنا تسابق منظرو المؤامرات في العالم العربي، فمن قائلٍ بأنّ ذلك من فعل ضابط روسي حانق على سياسة بوتين في الأزمة السورية، ويريد إحراج الحكومة الروسية وتوسيع الأزمة الحالية بدعوة لاعبين جدد إلى ساحتها، إلى ذهاب نفرٍ آخر إلى القول بأنّ ذلك من فعل مندس في قوات الأسد يريد كذلك أن يخلق أزمة جديدة بين سوريا وجارتها القوية تركيا.

ولقد كان رد الفعل التركي متعقلاً وحازمًا في آنٍ واحد. فكيف بسوريا الأسد أن تستفز جارًا يملك 750 ألف مقاتل وتدعمه ترسانة حلف الأطلسي، في مقابل كتائب الأسد التي يصل تعدادها إلى 220 ألف جندي مُنهكون في حرب عصابات ممتدة إلى معظم مناطق البلاد.

والحقيقة أنّ العزلة الدولية التي تعاني منها سوريا قد ازدادت اتّساعًا، خاصةً بعد توجيه تهديدات قوية من رئيس الوزراء التركي. لكن هذه التهديدات لا تصل إلى حد الإيذان باندلاع حرب وشيكة بين هذين الجارتين، حيث لا يزال حلف الأطلسي يمتنع عن دعم أي مجهود حربي مشترك في ظل الظروف السياسية والعسكرية القائمة.

غير أنّ تهديد رئيس الوزراء التركي باستهداف أي تحرك عسكري سوري بالقرب من الحدود التركية يعني كذلك أنّ على القوات السورية أن تبتعد بضعة كيلومترات من تلك الحدود، وهو ما قد يخلق منطقة عسكرية عازلة فعلية بين الجانبين. وسيحقق ذلك، إن حدث، فرصة لتجمّع اللاجئين في تلك المناطق، وربما يسمح كذلك لقوات الجيش الحر بالاستفادة من مناطق شبه آمنة للتواصل والعبور بين مقاتليه ومسانديهم من اللاجئين في الأراضي التركية.

وبالرغم من ضعف إمكانات الجيش الحر مقارنةً بالعتاد الثقيل الذي تتمتع به كتائب الأسد، فإنّ استمالة عدد أكبر من الجنود والضباط من جيش النظام عن طريق المنح والرواتب سيدفع بمزيد منهم إلى الانشقاق عن جيش النظام. وقد شهدنا مؤخرًا تزايد وتيرة انشقاق بعض كبار الضباط والطيارين، بينما كانت الانشقاقات السابقة محصورة في صغار العسكر.

وكلما تواصلت المظاهرات والاحتجاجات المدنية ضد النظام، وزاد النظام السوري من قمعه للمحتجين وقصفه للمدن بالصواريخ والمدفعية والطائرات، كلما فقد النظام شرعيته، وابتعد عنه مناصروه من طبقة التجّار والمنتفعين الذين دعموه واستفادوا منه لفترةٍ طويلة. ومثل هذا الزواج المنفعي بين النظام وحلفائه من التجار والبيروقراطيين هو زواج مؤقت، وليس كاثوليكيًا. وهذا يعني أنّ زيادة الضغوط الاقتصادية على سوريا لن تنهك النظام السوري وآلته العسكرية فحسب، ولكنها ستفكّ من التحالفات الاجتماعية والسياسية القديمة بين أساطين النظام، وبين التجار ورجال الأعمال الذين كانوا حلفاءً له حتى وقتٍ قريب.

حساب المغارم والمغانم سيكون إذًا الفيصل الرئيس في انفكاك الربقة الرابطة بين النخب الاقتصادية مع النخبة السياسية الحاكمة. وحينها لن يكون العبء الاقتصادي هائلاً نتيجة تكاليف الحرب، وعدم قدرة النظام على تمويلها خارجيًا، بل ستكون قدرته على فرض الضرائب على طبقة الصناعيين والتجار الداخليين أقل بكثير عما كان عليه الوضع في الماضي.

فالتحالف السياسي/الاقتصادي الماضي في سوريا كان يمثّل معادلة إيجابية لكِلا طرفي المعادلة، أما في الحالة الراهنة وفي المستقبل القريب فإن المعادلة ستكون ذات طابع صفري بين جانبي النخبة السورية. وفي هذه الحال، قد يرى التجار في أنّ تحالفهم القديم لم يعد فقط يمثّل عبئًا أخلاقياً، بل عبئاً ماليًا واقتصاديًا عليهم. وفي مثل هذا الوضع، سينفك الرباط، وينتهي مثل هذا التحالف غير المقدّس.

في هذه الأثناء ستزداد محنة المدنيين، ولكن الإيمان بالمستقبل وبالحرية التي يحاول أبناء الشعب السوري استنشاقها سيزداد أيضاً، فإنّ الوعد بانجلاء الظلام سيحلّ بعون الله، وعندها فقط سيغدو الشعب السوري حرًا، ويعود إلى محيطه العربي.

هكذا إذًا هي دينامية الثورة السورية، فقد مرّت بمرحلة احتجاج أخلاقي استنكارًا لعنف النظام، ومرّت بمراحل أخرى أنكسر فيها قدَح الخوف القديم، وها هي تتطور اليوم إلى انشقاقات عسكرية، وحركة عصيان مدني، وقد حان الوقت لانشقاق أركان الصناعة والتجارة في سوريا من نظام استبدادي باتت أيامه معدودة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى