صفحات الثقافة

«ديوان النثر العربي».. تاريخنا بالنثر أيضاً


عباس بيضون

في مقدمة «ديوان النثر العربي» وهو مؤلف جليل من أربعة أجزاء يضمّ منتخبات اختارها أدونيس من النثر العربي وكان سبق لأدونيس أن انتخب من الشعر العربي ما اجتمع في «ديوان الشعر العربي». أقول في مقدمة أدونيس لـ«ديوان النثر العربي» يشير أدونيس إلى أن «النثر ظاهرة مدينية مدنية». اكتفى أدونيس بالإشادة والواقع أنه فتح باباً ينبغي على الباحثين أن يتحروا وأن يتوسعوا فيه. قارئ «كليلة ودمنة» أو «رسالة الصحابة» لابن المقفع، شأنه شأن من يقرأ رسائل عبد الحميد الكاتب، ونحن هكذا ما نزال في أولية النثر العربي، قد يلاحظ أن نثر عبد الحميد الكاتب وتلميذه ابن المقفع هما غير النص القرآني. ففي كتابة الاثنين تبسط هو غير اللمح القرآني وفي كتابة الاثنين ترتيب وتسلسل وتفصيل ومناظرة وسرد غير تلك التي نعهدها في القرآن. والحال أن النثر العربي كما نراه عند الجاحظ وهو من شيوخ المعتزلة لا يتبع النص القرآني حتى في تنصيصه وتركيبه وموسيقاه. وإذا كان لنا أن نفرق بين كتابة الجاحظ والنص القرآني فنقول إن كتابة الجاحظ، إذا كان لها من شعرية تحتذيها فهي شعرية النثر. ليست صور الجاحظ ولا موسيقاه التي أطلق عليها التقطيع الصوتي من الشعر وإنما هي من النثر وشعريتها نثرية، ثم أن الجاحظ المعتزلي تناول في كتبه كل من خرجوا على نظام القيم العربي البدوي، فقد كتب عن البخلاء والكرم من قيم البدوي وكتب عن أهل الكدية (الشحاذين) وكتب عن الجواري ونحن في هذا كله خارج القيم العربية الموصوفة. وأما نثر بديع الزمان الهمذاني في مقاماته، والحريري فهو رغم تبحره اللغوي، إنما يتناول الشطار وهم أهل الحيلة والمتاجرة بالفصاحة والعلم، وهؤلاء نموذج ما كان ليوجد لولا المدنية والمجتمع المديني بتحولاته وهوامشه، ثم أن النثر الصوفي المليء بالشطح، الحر، الصادر عن تجربة شخصية دينية في الأساس، حاد رغم هذه التجربة عن النص القرآني فهو في تركيبه وبنائه وترتيبه وتخييله في مجال آخر. وإذا كان لنا أن ننظر في النص الصوفي وجدناه رغم التجربة الدينية ينقل هذه التجربة إلى حيز فردي تغدو فيه الذات هي مصدر التأمل وهي مصدر التخيّل. فالديني هنا هو الذاتي والذات هي البؤرة التي تضطرم بالمعاناة الدينية وهي التي تلتهب بالنار الإلهية وهي التي تقاسي البعد وتندمج في القرب وتشع بالتجربة. النص الصوفي داخلي ذاتي ملتهب بالمعاناة الشخصية، وهو في ذلك لا يقلد النص القرآني ولا يجاريه فتحول الدين إلى اختيار ومعاناة شخصيتين إنما هو أيضاً من تحولات المدينة ومن مجالاتها. نحن في النثر إذن أمام تجربة مدينية كما يقول أدونيس، بل نحن أمام تجربة اعتراضية خرجت على نظام القيم العربية الموروث، كما خرجت عن الدين في نصه الأساسي فهو، أي النثر، خرج إلى أبعد من الموروث القديم. خرج من المتن إلى الهوامش، ومن قيم النسب والكرم والسيادة، إلى التهجين والبخل والموالي، وإلى الحيلة والشطارة والمكر، بحيث تحولت اللغة والثقافة إلى مكر وشطارة وفن خاص وشخصي، وبحيث تحولت الأصالة إلى يوميات وسرديات ومناظرة وحذلقة، وبحيث تحول الدين نفسه إلى اختبار شخصي.

من هنا إذا وازينا بين الشعر والنثر وجدنا أن الشعر أقرب إلى الموروث وأقرب إلى نظام القيم وأقرب إلى النص القرآني. فإذا كان لنا أن نميز بين الشعر والنثر، لاحظنا أن الشعر هو الذي تحول إلى فن بلاطي، والشعر هو الذي تحول إلى ما يسمّيه الماركسيون بالثقافة السائدة والشعر هو الذي حمل، في المديح، نظام القيم العربي، نظام النسب والكرم والسيادة. والشعر هو الذي حمل في تضاعيفه التاريخ الملحمي والحروب والمواقع الكبرى والتاريخ البلاطي الخلفائي. بهذا يبدو الشعر هو النص الرسمي بينما لم يكن النثر سوى النص المضاد كما يقول الغدامي الباحث السعودي. كان النثر هو النص الهامشي المعني بالهوامش والمتضمن في داخله نواة الهامش وثقافته، فنحن إذا عدنا إلى الجاحظ وجدنا في بخلائه وفي رسائله صورة الثقافة الوافدة الجديدة وقد تحولت إلى حذاقة وحذلقة ومهارة وشطارة توظف في غايات نفعية مموّهة. كما نجد هذه الثقافة قد تحوّلت إلى حذلقة وحذاقة وشطارة في المقامات. نحن اذن أمام نافذة تطل على عصرها وتعيشه فيما هي تنقده وتسخر منه. فهذه الثقافة الوافدة من فلسفة ومنطق تحوّلت إلى صيحة رائجة واشتغلت في كل ما تستدعيه السلطة وتستدعيه المصلحة ووظفت في هذه الغايات. أي أننا نقرأ هنا التحول الاجتماعي والثقافي، نقرأ الجديد والمعاصر مع التعليق عليه والسخرية منه، وقد غدا ادعاء وانتحالاً للفكر وتزويراً. هكذا نجد أننا أمام نثر دنيوي في ثقافة ما يزال يغلب عليها الدين. أمام أدب دنيوي بكل معنى الكلمة، أدب الحاضر وأدب اللحظة وأدب العصر، أي أننا أمام أدب، هو فضلاً عن آنيته ومعاصرته، يملك ما يبدو، لأول وهلة، خاصية للأدب وخاصية للنثر وهو التهكم والسخرية من القيم الجديدة. بخلاء الجاحظ من هذه الزاوية كما هي مقامات الهمذاني تعادل دونكيشوت سرفانتس في تهكمها على الفروسية. الجاحظ والهمذاني يتهكمان على الثقافة الجديدة التي بدأت تسود، لكنهما في العمق يتهكمان على القيم المتآكلة، قيم البداوة، قيم النسب والقرى والسيادة. من ناحية أخرى نجد أن النص الصوفي يعترض على الدين التقليدي، الدين السائد. الدين لدى المتصوفة هو دين التجربة المفعمة بالمخاطر والمفعمة بالمصائر المخيفة والامتحانات المفزعة والعذابات المنتظرة. لسنا هنا أمام النص الرسمي فرغم أن التجربة في عمقها تجربة دينية إلا أنها تضع الدين حيث لا تضعه المؤسسة الدينية وحيث لا يضعه الخطاب التقليدي. ثم اننا نجد لدى نص المتصوفة كما نجد لدى نص الجاحظ والتوحيدي والمسعودي والمقريزي، شعرية من نوع آخر. هي شعرية النثر. نجد أن للجملة النثرية شعرية توازي شعرية الجملة الشعرية، بل إن في تكشف هذه الشعرية واختراقها والتملي منها والامتلاء من معينها ما يضعنا أمام شعرية من نمط خاص، هي، ببنائها وبلاغتها وموسيقاها، تستحضر فناً قائماً بذاته وتفتح الطريق لاختراعات اللغة ولعب الخيال وتجديد اللحظة الشعرية والوصول إلى تجارب أصيلة وحميمة وداخلية وجديدة.

أن نقرأ ديوان النثر العربي كما اختاره وانتخبه أدونيس، وكما حكّم فيه تجربته وذوقه وثقافته لا ننتهي فقط إلى تبجيل هذه التجربة بل نرى فيها استعادة للأصوات الكبرى التي تداولت التاريخ العربي واخترقته. فنحن في هذا النثر لا نجد فقط أهل السياسة العرب وقادتهم وثوارهم ومعارضيهم فحسب، ولا نجد فقط أدباءنا الكبار وأئمة متصوفينا وإنما نستعيد ذلك السجال المتواتر المتداول الذي صنع تاريخنا. نسمع العصور تتكلم في هذا الديوان ونصغي إلى البواعث المتعددة ويأتينا الكلام من جهات شتى فكأننا ونحن نقرأ المنتخبات نشهد بناءنا الفكري والثقافي بطبقاته المتعددة والمتفاوتة. بل، إن هذه المنتخبات الشاسعة ترينا أن في وسعنا أن نرى مشهدنا التاريخي عبر النثر كما نراه عبر الشعر، بل اننا نشعر بدينامية هذا التاريخ وتفاوتاته وفروقاته وصراعاته في النثر ربما أكثر مما نراها في الشعر. يمكننا أن نحتفل بديوان النثر العربي لأدونيس احتفالنا بـ«ديوان الشعر العربي» من قبل. لكن للشعر ومنتخبات الشعر سوابق عند العرب بل وسوابق في أيامنا هذه، أما النثر فمهمة أثقل وأوعر أنجزها أدونيس ووضع بين أيدينا أربعة مجلدات كبيرة. إننا بحق أمام حديقة جديدة في الثقافة العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى