ذاكرة موسيقية.. بلا إيقاعات
يارا بدر
‘نلتقي بعد قليل.. بعد عام.. بعد عامين، وجيل’، كم أحببت هذا القول الشعري للشاعر الفلسطيني ‘محمود درويش’، وكم كتبته حيثما وجدت فراغاً، وكم كررته، إلاّ أنني اليوم، وانا فريسة المجهول الأمني لا أقوى على إكماله. أخاف أن يكون عام حتى اللقاء، وقد انقضى منه تسعة أشهر، أخاف أن تتحقق النبوءة السوداء ويكون عامين وجيل…
ليس وحده محمود درويش من نعيد اليوم قراءته، من يُعاود الالتصاق في مفردات حياتنا، فكما هي حياة أخرى عن تلك التي ألفناها واجتررناها طوال عقود كان فيها ‘درويش’ شعراً وعشقاً وقصائد عن قضية اسمها ‘فلسطين’، اليوم في حياتنا الجديدة حيث نتخبّط في حريتنا الفردية الصغيرة ونحن نكتشف تلافيفها، نرتطم مع بعضنا في المساحة المضطربة للأنا والآخر، حيث الدم وصوت الرصاص والهدس بالحرية، وحيث أنهّ الحب في زمن الحرب، يغدو ‘درويش’ سطراً في قصيدة انتظار يومي، وشعراً للحرية يُنقش على جدران مدينة سراقب.
(فافرح، بأقصى ما استطعت َمن الهدوء
لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطرق إليك
من فرط الزحام…. وأجّلك).
أمّا ‘فيروز’ سيدة الصباحات دائماً، هي تلك الصورة العتيقة في الذاكرة، لقهوة أمي وسيجارتها، لبرودة الصباح الشتوي، ولأغنية ‘بكتب اسمك يا حبيبي’، والتي إلى اليوم أتساءل لماذا اختارتها والدتي وكتبتها لي، فكانت أول أغنية حفظتها لفيروز، ذاتها هي الأغنية التي سمعتها في غرفة العقاب التي كنا نرتادها بشكل يومي طوال 64 يوم في فرع المخابرات الجوية، سمعتها من غرفة مجاورة، بعد أن علا صوت التعذيب القادم ليس من بعيد.
وهي، ‘فيروز’ وحدها من تحملني على متابعة وجهة نظر الآخر، كما يُفترض بأيّ إعلاميّ له علاقة بأبسط درجات المهنيّة أن يفعل، ففي الصباح انتقل إلى إذاعة مؤيدة في خطابها الإعلامي للخطاب الرسمي الخاص بالحكومة السورية، اسمع أغاني الصباح الفيروزية، وأقرأ الأخبار ذاتها التي تابعتها على القنوات المُغرضة، بعد أن تمّت إعادة إنتاجها وفق الخطاب الرسمي.
هي المفارقات بين ذاكرتنا التي كانت، وحاضرنا الذي يُنتج ذاكرة مُغايرة بكل تفاصيلها وحميميتها، وأحياناً يُنتج ذاكرته الخاصة. اذكر أنّ الطرب العراقي بالنسبة لي هو أغنية ‘إعزاز’ للفنان ‘ياس حسن’، كان شريطاً أخذه والدي معه إلى منزل العائلة في ما اكتشف لاحقاً أنّه آخر زيارة، في تلك المرة لم تعجب الأغنية أحداً من أفراد العائلة. بعد اثني عشر عاماً، عاد والدي ليكتشف أنّ جدتي لازالت تضع الشريط، تسمع الأغنية التي لا تحبها، وتبكي.
في حين أنّ تجربتنا الشخصية مع الفن العراقي كانت وبشكلٍ عفويّ تماماً معاصرة أكثر، إذ تمّ اعتقالنا واقتيادنا إلى فرع المخابرات في باص أبيض كبير، كان سائقه لطيفاً جداً، ويستمع إلى ‘ماجد المهندس’، وبكل العبث اللا منتهي لانتظار غودو بقيت شهوراً وأنا أعصر ذهني في محاولة تذكّر الأغنية التي كنّا نستمع إليها، البارحة تذكرت وبالصدفة أنّها لم تكن أغنية بل (سي دي) كامل، يتناسب ورحلة الاعتقال المستمرة بحق زملاءنا (مازن درويش، هاني الزيتاني، حسين غرير، عبد الرحمن حمّادة، ومنصور العمري) منذ تسعة شهور..
في ذلك الباص، وبينما يترجّل الشباب واحداً تلو الآخر لتسليم أماناتهم، غنينا لصديقنا عبد الرحمن الذي تمّ الاعتقال في يوم عيد ميلاده الرابع والعشرين: (تنذكرْ ما تنعادْ، ونشوفكْ بالأعيادْ، بس نساني…).
اليوم تُبنى هذه الذاكرة الشخصية الجديدة، وتُبنى ذاكرة جمعيّة أشمل للوطن، إذ وعلى سبيل المثال، نشأ جيل من أبناء معتقلي الثمانينيات في سوريا، خاصّة معتقلي أحزاب اليسار والقوميات، على وقع ضربات عود ‘مارسيل خليفة’، الذي لم يبق منه لنا اليوم سوى بضع كلمات مثل ‘تصبحون على وطن’، و ‘لرفاقٍ غالين في السجن أغني’، نحن وسوانا لم نجد مساحةً في الأثير السوري السمعي او البصري لرجلٍ لطالما غنّى للجولان المُحتل. ‘سميح شقير’ اكتشفته حين هلّل زميلنا الكردي السوري في المكتب لأنّ الفنان الكردي ‘شيفان’ غنّى باللغة العربية للثورة السورية، يومها اسمعني أستاذي في المكتب أغنية سميح: ‘لي صديقٌ من كردستان’. في الذاكرة الجمعيّة لسوريا هي أغنية ‘يا حيف’ الخاصة جداً بكل ما فيها من ارتباط بأحداث هذه المرحلة من تاريخ سوريا، ومن وجع شعبها، أمّا في ذاكرتنا الشخصيّة، فهي أغنية ‘آن أوانك آن يا زهر الرمان’، التي تقول بأنّه حان الوقت ليزهر الرمان فوق مجدل شمس في الجولان المحتل، هو ‘هاني’ زميلي في المكتب من قرّر لازمة ‘فيروز’ الصباحية طوال أربع ساعات، وفي الأربع اللاحقات ‘سميح شقير’، يوم الأربعاء كنّا نسمع هذه الأغنية، وكتبت:
‘آن أوانك آن، يا زهر الرمان لتصبّح على المعتقلين…’.
ومنذ يوم الخميس 16/ شباط/ 2012 ونحن ‘لرفاقٍ غالين في السجن’ نغنيّها، وللمعتقلين والمفقودين السوريين حيثما كانوا.. وحتى ينتهي الأوانْ..
القدس العربي