ذاهب في البحر.. مغادراً الشرق بلا أسف/ بدر دباغ
الدفتر الذي قرّرت كتابة يومياتي عليه لم اشتره بعد. لقد مرّ عام تقريباً على هذه الفكرة، والدفتر مازال غائباً. منذ يومين انتقلت للبيت رقم خمسة عشر منذ خروجي من سوريا العام الفائت، وأخيراً أصبح لديّ شيء أكتبه في سيرتي الذاتية الآن. لقد تنقّلت خلال هذه السنة بين سبعِ مدن وثلاثة بلدان.
أشعر بأنّ القدر يرسم لي طريقاً، يحاكي الطريق الذي سلكه جدّي، بدر الأكبر، الذي سُمّيت تيمّناً به. فقد سافر الأخير إلى كلّ من قبرص وإسبانيا والبرتغال والجزائر والسعودية، ليعود أخيراً إلى مسقط رأسه، اللاذقية-حارة العيد. لا أحلم بالعودة مثله، على العكس من ذلك، أريد أن أبتعد أكبر مسافة ممكنة عن هذه البقعة من الأرض.
رحلتي بعد أيام قليلة، ستبدأ بقارب صيد إلى إيطاليا، أموت أو أعيش، أغرق أو أطفو إلى سطح القارة العجوز. يقولون أنّ الأسماك التي نأكلها من المتوسط مُحرمّة لأنها تقتات على مئات من الجثث الغارقة، ربما سوف تتذوقونني قريباً. أفضل عدم وضع الملح. بحثت اليوم عن صورة لي تجمعني بأبي أو أمي فلم أجد. فبحثت عن صورة تجمعني مع أخي أو أختي فلم أجد. أنا يتيم الصور أحتاج إلى استوديو لكي يرعاني. أقبل بفتاة لديها صفحة فوتوغرافية على الفيسبوك أيضاً.
عندما كنت صغيراً في حضانة أسراب اليمام كنا نغني أسماء الله الحسنى في الباص كلّ يوم، لم نكن نعلم بأنه سينسى اسمنا الوحيد عندما نكبر، دموعنا ودماؤنا لم تحرّك شيئاً من ذاكرته. بحثت اليوم أيضاً عن كمية الكذب الموجودة داخل الـ»سي.في» خاصتي، فقرّرت مسحها والاعتماد على كفاءتي الحقيقية. انتهيت بعد دقيقتين وأنا أطبع ورقة وحيدة عليها اسمي ورقم هاتفي. آه نسيت، لقد كتبت أيضاً بأنّي مواطن سوري.
تتكثّف عليّ الأسئلة الوجودية هذه الأيام، هل الله موجود؟ ماذا يوجد بعد الموت؟ غالباً ما أعود لأكرّر هذين السؤالين مراراً من دون جدوى. أريد أن أستحمّ في بانيو مليءٍ بالماء الساخن للمرة الأولى في حياتي، أريد أن ألعب كالأطفال وأحرّك أصابعي على موسيقى «يا حامل أخمس حديد» وكأني أرسم الزوبعة التي يضعها مقاتلو الحزب السوري القومي على رؤوسهم وهم يقتلون السوريين باسم الحداثة والممانعة. إنها من المفارقات المهمة في حياتي: لا أعرف رسم أي شكل غير الزوبعة. عندما كنت في مرحلة الأشبال داخل الحزب، كنا نلعب طول الوقت ونضحك وفي نهاية اليوم يعلمونا كيف نرسم الزوبعة: هكذا يؤدلجون عقولنا بوضاعة.
البانيو سيكون تجربتي مع مساحة مياه تستطيع أن تغمرني، أحتاج الإعتياد على الغرق. احتياطاتي هي فوّاشة وذكريات جميلة من السباحة في بانيو أزرق اللون. البدايات دائماً ما تكون غبيّة وبريئة، لكنها تؤسّس للحقيقة في النهاية. كان عمري اثني عشر عاماً عندما حاولت أن أمارس العادة السريّة للمرة الأولى، كنت في الصالون بينما أبي جالس على الكنبة المقابلة يشاهد التلفاز. هذا المشهد أجمل شيء حصل وسيحصل لي. كل شيء كنت أقوم به بينما أكبر هو عادة سريّة أمام شخص غريب، قليل من الوقت وأكتشف أنّ ذلك خطأ، أصحّح مسيرتي، وهكذا.
أنا أرخميدس، أتلاعب بقوانين الكون وأشرب المارتيني، تقع الزيتونة فتسدّ مجرى خروج المياه، «أرك» هي السبب. أفكّر بدفتر اليوميات الذي سأشتريه غداً، أفكر بكثافة الأحداث التي سيحتويها، هل سيتقبّلني الناس لاحقاً لو عرفوا حقيقة مايحدث معي كلّ يوم. لم يكن البانيو متوفراً في منزلنا أو في بيوت نزوحي الخمسة عشر. لذلك، يا شباب، نظّموا «ووركشوب» عن الدعم النفسي وتعليم السباحة لأطفال حلب، أريد بانيو مع معلّم صحيّة. اللابتوب مهمّ أيضاً. هاجسي الوحيد هذه الأيام أن تأتي الساعة التي أكتب فيها لأصدقائي على الفايسبوك: بدر يغادر هذا الشرق غير آسف، هناك احتمالٌ للموت، سامحونا. عندها أمسك شريط حياتي بين يديّ، لا أحاول تذكّر شيء، فقط ألمس اللحظات بسرعة، وأضع أوّل قدم فوق البحر.
المستقبل