ذكرى الثورة الإيرانية وصعوبة تعقّلها/ حسن شامي
ليس أمراً سهلاً أن نقوم بجردة حساب للثورة الإيرانية وجمهوريتها الإسلامية في ذكراها السادسة والثلاثين. لا تعود صعوبة التقويم، أو التقييم، إلى رتابة الطقس الاستذكاري حيال حدث التأسيس وتحوله إلى مسار حافل بالأحداث المتناسلة من بعضها بعضاً، وصولاً إلى الموقع الإقليمي البارز الذي تحتله إيران اليوم. فمثل هذا التقويم بات طقساً دعوياً متصلاً لدى مؤيدي الجمهورية وثورتها من دون تحفظ، ولدى خصوم الثورة وجمهوريتها من دون تحفظ أيضاً. فهؤلاء وأولئك يزعمون القبض، بمناسبة أو من دون مناسبة، على جردة الحساب الجاهزة في عرفهم أياً كان رقم الذكرى.
في قراءات جاهزة من هذا النوع، سواء كانت سلبية أم إيجابية بالمطلق، يفقد الحدث سماكته التاريخية. فلا يبقى منه سوى ما يصلح للوعظ أو الاتعاظ. تجري الأمور، خصوصاً في الخطابات الشائعة في العالم العربي، كما لو أن الحدث الكبير، كما هي حال الثورة المؤسسة للجمهورية أو حرب الثماني سنوات المدمّرة بين العراق وإيران، لا يتشكل كموضوع مستقل في ذاته ولا يدور في مدار منفصل عن سياسات الهوية الكلية والأحكام المطلقة.
هكذا لا يعود للحدث أي قوام حقيقي، إذ هو بفصوله ووقائعه الكثيرة ساحة عرض تربوي يعثر فيه الجميع على ما يعرفونه ويحتكمون إليه من قبل. الحدث ليس سوى مناسبة لاستنطاق المقرّر سلفاً. إنه مجرد استعراض لإمارات الحكمة الراشدة، في رواية المؤيدين المتحمسين، ولأمارات الغي والضلالة، في رواية الخصوم والأعداء.
في هذا المعنى، يمكن القول إن أحداثاً كبرى عصفت بهذه المنطقة لا تجد ما يعادلها في ترسيمات الوعي السائد عربياً، وربما إسلامياً. هناك حروب شكّلت منعطفات تاريخية ومحطّات لرسم المصائر الوطنية تبدو كما لو أنها لم تقع. العبارة الشعبية، أو الشعبوية إذا شئتم، والقائلة إن الأمور كلها عند العرب «صابون»، أي رغوة وفقاعات سريعة التبخر والزوال، لا تبعد عن هذا التوصيف وشحنه بجرعات من التأسي والتأسّف والشعور بعبثية الأقدار. لا نعلم ما إذا كان جائزاً في أحوال كهذه أن نطلق على ضروب من التمرينات البلاغية والخطابية صفة المقاربة العقلانية للحدث. فالكلام عن تعقّل للحدث يفترض مقداراً من الاستقلالية النقدية والإحاطة بمختلف الدلالات التي لا يبخل الحدث بإبرازها. هنا بالضبط تكمن الصعوبة التي أشرنا إليها في البداية.
جرت ولا تزال تجري مياه كثيرة تحت جسور الجمهورية الإسلامية منذ لحظة تأسيسها الثوري قبل ستة وثلاثين عاماً. ومع أن المشهد الإيراني اليوم يشي بحصول تبدلات، خصوصاً في قطاع الشباب الذين ينتمون إلى مجتمع ما بعد الجمهورية الثورية الإسلامية، فإن وجه الاستمرارية والاتصال لا يعدم الحضور على مستوى معين في الأقل. وتعيين مقادير الصفتين والوجهين، أي التبدل والاستمرارية، يتطلب مقاربة التحولات في الواقع الإيراني باعتبارها مؤشرات إلى دينامية اجتماعية وسياسية أطلقتها الثورة نفسها. فنحن نجد اليوم، في الخطوط الكبرى للاصطفافات وتوزع القوى السياسية وفي معالم الحراك الاجتماعي والإيديولوجي، قسماً لا يستهان به من وجوه التباين والانقسام على المحاور الأساسية للثورة وللجمهورية الناشئة عنها وفي كنفها.
يمكننا أن نضع هذه المحاور تحت ثلاثة عناوين كبيرة. الأول هو التأكيد على الهوية الإسلامية العريضة مع تخصيصها بالمذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري. العنوان الثاني هو التأكيد على الوطنية الإيرانية واستقلاليتها وانتهاجها نهجاً خاصاً يبقيها خارج اصطفافات الحرب الباردة والثنائيات القطبية الدولية. العنوان الثالث هو الانضواء السياسي، والإيديولوجي، في ثقافة ونهج حركات التحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية والنظم الاستعمارية وفي مقدمها إسرائيل.
سعت الثورة إلى التوليف بين هذه العناوين التي يمكن لكل منها أن يكون مدار نشاط ونهج قوة سياسية وفكرية معينة. بل يمكن القول إن خريطة القوى والاتجاهات والتيارات الناشطة تتوزع، بهذا المقدار أو ذاك، على هذه العناوين في معنى أن هذا التوزع يقوم لدى هذا الطرف أو ذاك على تغليب أو ترجيح كفة عنوان معين على العنوانين الآخرين. غير أن الحدود بينها تبقى بطبيعة الحال متحركة وغير ثابتة. وكل من هذه العناوين يحتمل قراءات وتأويلات مختلفة لا يخلو بعضها من التزمت والتشدد العقائدي. وليس مستبعداً أن يكون قسم بارز من دينامية الحراك الإيراني اليوم عبارة عن محاولات لإعطاء الأرجحية القيمية لعنوان عريض ومعين على العناوين الأخرى.
في هذا السياق تندرج المناظرة، الخافتة حيناً والعالية النبرة حيناً آخر، حول صلاحية السلطة والمؤسسات المنبثقة من الثورة وآلية اشتغالها. فمن المعلوم ربما أن هذه السلطة استندت إلى نمط معين من السيطرة يمكن أن نصفه بالسيطرة الكاريزمائية بالتمايز عن النمطين الآخرين وهما السيطرة التقليدية والسيطرة العقلانية البيروقراطية، بحسب تصنيف جذاب لأشكال السيطرة وضعه قبل قرن تقريباً ماكس فيبر. وكان الأخير لاحظ أن الزعامة الكاريزمائية لعبت دوراً ثورياً على مدار التاريخ وأنها لا تعيش طويلاً وتحتمل أن تنتقل إلى صيغة اكثر عقلانية كما تحتمل التحول إلى نظام شمولي.
والحق أن مراقب المسار الإيراني يقع، في حقل الاختبار والتجريب الدائر هناك، على وجوه لهذه الاحتمالات من دون أن تكون الأمور محسومة على نحو قاطع ونهائي. وضعية التفاوض على الملف النووي الإيراني بين طهران والغرب تكاد تلخص كل التعقيدات والتشابكات القائمة في الجمهورية الإسلامية. فهناك إجماع وطني على الحق في انتاج الطاقة النووية وإن كان كل طرف ينسب هذا الحق إلى العنوان الذي يريد، وربما إلى أكثر من عنوان. وهو يكشف درجة التقدم العلمي الذي بلغته إيران ويختلف بالطبع عن استعراضيات التفنن في استخدام تكنولوجيا الاتصال لدى نظم ومنظمات جهادية وغير جهادية. فالتحكم بالطاقة النووية يكشف عن تصور لشبكة العلاقات بين الإقتصاد والمجتمع والسيادة الوطنية والاستقلال السياسي. وهذا ما يصعب قبوله في دوائر السلطة الدولية. ينبغي القول إن إيران كانت أصلاً ومنذ الثورة في وضع تفاوضي. والتفاوض، حين يكون بين أنداد، لا يخلو من مناورات مشتقة من علم الحرب والمجابهة. فالإيرانيون لا يفكرون بتدمير أميركا بل بحماية ثورتهم وجمهوريتهم من انقلاب يذكر بما حصل مع مصدق.
الحياة