ذكرى رحيل نصر حامد أبو زيد تمر في صمت مطبق: مفكر خاض أعنف المعارك وحمل على كاهله مظالم العنف الديني
القاهرة ـ ‘القدس العربي’ ـ من محمود قرني: قبل حوالى عام من الآن قضى الدكتور نصر حامد أبوزيد، وهاهي ذكراه الأولى تمر دون أن يتذكره أحد.
فكما جاء رحيله فجائعيا ومباغتا كانت حياته، لاسيما الخمس عشرة سنة الأخيرة منها، حيث قضاها في منفاه الهولندي بعد أن قضت محكمة مصرية بارتداده ومن ثم تفريقه عن زوجته الباحثة ابتهال يونس. على خلفية من دعوته المتجددة لقراءة النص الديني قراءة تاريخية، بعيدا عن مفهوم القداسة والحاكمية اللتين ساهمتا في القضاء على مفهوم الاجتهاد. ورغم اعلان أبي زيد في العديد من مؤلفاته أنه لا ينكر ألوهية القرآن وأنه يتوقف أمام الوسيط البشري الذي نقله والذي لايستقيم فهمه ـ بطبيعة الحال ـ بعيدا عن الظروف التاريخية التي نزل فيها إلا أن منتصف تسعينيات القرن الماضي شهدت حالة من العدوان السافر على كل الأفكار النهضوية التي دعت الى ضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد شهدت هذه الفترة أعلى تجليات العنف الديني في مصر ما دفع الدولة الى التخلي عن أبي زيد، فترك جامعة القاهرة التي كان يدرس بها بعد توصية مجلس الجامعة بعدم ترقيته الى درجة الأستاذية بسبب أعماله المتهمة بالمروق، ثم تصاعد الأمر حتى وصل الى أن أقام واحد من المحامين دعوي حسبة ضد الرجل للقضاء بردته وذلك تأسيسا على التقرير الذي وضعه الدكتور عبد الصبور شاهين أستاذ علم التفسير في حينها عن مؤلفات أبو زيد وكان التقرير يحمل اتهاما صريحا له بالكفر والخروج على الملة. ونظرا لأن الحكم الصادر في الدعوى كان يمثل سابقة تنذر بالخطورة وإمكانية التكرار اضطرت الدولة الي إصدار تعديل تشريعي في قانون المرافعات يربط إقامة مثل هذه الدعوى بالنيابة العامة باعتبارها ممثلة لمصلحة المجتمع دون أن تترك هذا الحق على عواهنه للأفراد .وقد استفاد عدد كبير من الكتاب من هذا النص، في بلاغات مختلفة تم تقديمها للنائب العام طعنا وتفتيشا في ضمير هؤلاء، وكان آخر هذه التجليات بلاغ تسعة من المحامين ضد الطبعة التي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة من الكتاب المرجع ‘ألف ليلة وليلة’.
وقد ولد نصر أبو زيد في إحدى قرى طنطا في 10 يوليو 1943، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة، في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة التوجيهية ليستطيع استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن لتستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960.
حصل نصر على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة 1972م بتقدير ممتاز، ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976م وأيضا بتقدير ممتاز، ثم دكتوراة من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979 بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
عمل نصر حامد أبو زيد بعدد من الوظائف منها: فني لاسلكي بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية 1961 -1972.معيد بقسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1972. مدرس مساعد بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1976.منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1976-1977 ،مدرس بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1982. أستاذ مساعد بكلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة بالخرطوم خلال الفترة من {1983-1987}أستاذ مساعد بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1987. منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية 1978-1980.أستاذ بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1995. وقد حصل أبو زيد على العديد من الجوائز والأعمال منها: جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة 1982. أستاذ زائر بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان 1985 ـ 1989 وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس 1993.أستاذ زائر بجامعة ليدن بهولندا بدءا من أكتوبر 1995.جائزة اتحاد الكتاب الأردني لحقوق الإنسان، 1996.كرسي كليفرينخا Cleveringa للدراسات الإنسانية – كرسي في القانون والمسؤولية وحرية الرأي والعقيدة- بجامعة ليدن بدءا من سبتمبر 2000. ميدالية ‘حرية العبادة’، مؤسسة إليانور وتيودور روزفلت2002.كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام والهيومانيزم، جامعة الدراسات الهيومانية في أوترخت، هولندا 2002.
أما مؤلفات نصر أبوزيد فقد تجاوزت العشرين كتابا منها: الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عندالمعتزلة) وكانت رسالته للماجستير، فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) وكانت رسالته للدكتوراة، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، اشكاليات القراءة واليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة، نقد الخطاب الديني، المرأة في خطاب الأزمة (طبع بعد ذلك كجزء من دوائر الخوف)، البوشيد (ترجمة وتقديم نصر أبوزيد)، الخلافة وسلطة الأمة نقله عن التركية عزيز سني بك (تقديم ودراسة نصر أبوزيد)، (1) النص السلطة الحقيقة (مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقه)، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة (يتضمن الكتاب السابق المرأة في خطاب الأزمة)، الخطاب والتأويل (مجموعة دراسات، تتضمن تقدمة كتاب الخلافة وسلطة الأمة)، التفكير في زمن التكفير (جمع وتحرير وتقديم نصر أبوزيد عن قضية التفريق بينه وبين، زوجته وردود الفعل نحوها)، القول المفيد في قضية أبوزيد (تنسيق وتحرير نصر أبوزيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته، هكذا تكلم ابن عربي (يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي)، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.
وما من شك أن الموقف الفكري الجذري لنصر حامد أبو زيد كان يعتبر إعادة اعتبار لفكرة التنوير التي صاحبت مشروعا عربيا واعدا بالنهضة، وما انحيازه إلى الفكر الاعتزالي سوى محاولة للتنبيه الى أهمية الأخذ بالقراءة العقلية للنص القرآني، لذلك فقد كرس الرجل كتابا مفردا لهذه القضية حول المجاز القرآني لدى المعتزلة، وقد ظلت القضية نفسها محورا أساسيا في جل أعمال أبو زيد. ففي كتابه المؤسس ‘ نقد الخطاب الديني’ يري أبوزيد أن رد الظواهر كلها ‘طبيعية واجتماعية’ إلى علة أولى أو مبدأ أول، من شأنه أن يقود بالضرورة إلى ‘الحاكمية’ الإلهية بوصفها مقابلا ونقيضا لحاكمية البشر. ويرى الرجل أن الخطاب الديني لايكتفي بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب، بل يوظفها أيضاً في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولاته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة متهالكة هي مناهضة الدين.
ليس هذا فحسب بل كثيرا ما تناول الكاتب عناصر أخرى أخذت قداسة النص نفسه مثل أقوال السلف، بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته، وبعبارة أخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية ‘التوحيد بين الفكر والدين’ في توظيف هذه الآلية، أما بالنسبة لـ ‘آلية تفسير الظواهر’ بردها إلى مبدأ واحد فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر، ومن الواضح ـ حسب المؤلف – أن الخطاب الديني يعتمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض توظيف هذه الآلية ويردها على أصحابها وهذا في حقيقته يمثل موقفاً نفعياً إيديولوجيا من التراث موقفاً يستبعد منه العقلي والمستنير ليكرس الرجعي المتخلف ولعل هذا ما يدفع البعض لاستخدام نفس الآلية مستنداً إلى العقل المستنير في التراث متوهماً بذلك أنه يمكن أن بحارب التخلف بنفس صلاحياته، ومتصوراً أنه يستطيع بنفس السلاح هزيمته. والحقيقة أن هذا الموقف النفعي من التراث للخطاب الديني يساعده في توظيف آلية إهدار البعد التاريخي. ويعود أبو زيد بمفهوم الحاكمية الى الدولة الأموية التي بدأت برفع المصاحف على أسنة السيوف وطلبت الاحتكام الي كتاب الله عندما استجاب معاوية لنصيحة عمرو ابن العاص في معركة صفين، يقول أبوزيد: ولا خلاف على أنها كانت ‘حيلة’ أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات الخصوم وان توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين. إن حيلة التحكيم تكشف عن محتواها الأيديولوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص، وقد أدرك الأمام علي ذلك وكان قوله لرجاله: ‘عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص (وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر الاطفال وشر الرجال، ويحكم انهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة. ويضيف أبوزيد أن هذا الموقف ترتب عليه نشوء ظاهرة أهدرت قيمة عقائدية، وأسست لظاهرة الحاكمية ويؤكد أن افتقار الدولة الأموية الى المشروعية هو الذي دفعها الى ذلك، ويؤكد الرجل هنا أن هذه اللعبة تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي وهي عملية ظل النظام الأموي يمارسها بحكم افتقاده إلى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي وقد ظل الاتجاه إلى الأسلوب الأموي مسلكاً سائداً في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية. ويضيف أبوزيد :احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ ‘الحاكمية’ الذي غرسه فكانت مقولة ‘الجبر’ التي تسند كل ما يحدث في العالم بما في ذلك أفعال الإنسان – إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة.
ولم يكن نصر أبوزيد ببعيد عن القراءة الواقعية لأسباب الأزمة الفكرية والمجتمعية التي أدت الى غلق باب الاجتهاد، ويقول هنا:
إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه، لأنه مقصد شكلي ما دام يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلا عن انه تزييف يجمد النصوص كما يجمد الواقع، فيتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن معاشرة جنسية، وإذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين آراء القدماء للاختيار منها، حسب أبوزيد، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكوما بأطر لا تمت إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ ‘لا اجتهاد فيما فيه نص’، وفي قضية أن تحجب البنت سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي ان يكون المعيار هو المقاصد الكلية للوحي، بدلا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص. لذلك ليس غريبا أن تتسع الفجوة، حسب أبوزيد، بين الواقع المتحرك المتطور وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها. وينتهي أبو زيد الى القول بأن الخطاب الديني بكل مستوياته التي من معتدل (حكومي ومعارض) ومتطرف وتعليمي تربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على السواء.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتا، فإنه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الأعلام، صدى كان يتردد خافتا طوال الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت / الاستشهاد. ويختتم أبو زيد رأيه قائلا:
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة، إن الواقع من منظور شباب عصي على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، ان الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم، وهلم جرا.دث أكبر منا وأكبر من أوهام النخبة ومن قراءات ناقد ‘أوهام النخبة’.
القدس العربي