ذَنْبنا أننا لسنا أدونيسيين كما يجب!
عمر قدور
كانت مفاجِئة ربما مشاركةُ أدونيس في مؤتمر لبعض المعارضين السوريين في جنيف، في أواخر شهر كانون الثاني الماضي. فالرجل بدا كأنه يتخذ وضعية المثقف المتعالي على ثورات الربيع العربي، ومن ثم ليس مستعداً للخوض في مستنقعها السياسي الذي يأنف منه. لكن من المرجح أنه وجد ضالته في توجّه الشخصيات الأساسية المنظمة للمؤتمر، التوجه المبني أساساً على رفض تسليح المعارضة وتوسل الإصلاح بالشراكة مع النظام القائم، مثلما وجد المنظمون ضالتهم في شخصية أدونيس المعروفة على نطاق واسع، لعل حضوره يلفت الانتباه الدولي، فضلاً عن خبرته المتوقعة في مخاطبة العقل الغربي.
هكذا ذهب استهلال كلمة أدونيس إلى الهدف مباشرة، وهو يفترض “محقاً” أن المؤتمرين يحمّلون “المعارضة المسلحة” مسؤولية العنف، لأنها تستخدمه من أجل الإطاحة بالنظام لا كنتيجة لاستخدام النظام العنف على نطاق واسع ضد الثورة التي بدأت سلمية واستمرت في تلقي العنف الممنهج طوال أشهر. ثم إن أدونيس، الذي طالما أدان التاريخ العربي بوصفه تاريخاً من أنظمة الاستبداد والعنف، يتجاهل تماماً تاريخ النظام الحالي ومجازره التي فاقت نوعاً وكمّاً ممارسات الانقلابات العسكرية السابقة التي شهدتها سوريا بعد الاستقلال، ليساوي بينها جميعاً في مخاتلة تهدف إلى تبرئة النظام وإظهاره كمحصلة لما سبق لا غير. هو منذ البداية لا يرى أقل التقديرات التي تشير إلى مقتل سبعين ألف مدني على أيدي قوات النظام، ووجود مئتي ألف معتقل في سجونه، بل يرى فقط معارضة تستخدم العنف لإسقاطه، وتتيح للقوى الخارجية العبث بسوريا، وكأن العنف سمة بنيوية للمعارضة لا للنظام.
“كانت سوريا ولا تزال التجمع البشري الأكثر قدماً وغنى وتنوعاً وانفتاحاً بين بلدان العالم. ففيها التقت ولا تزال تلتقي أديان وسلالات قديمة، وتتعايش مع بعضها بعضاً. ولا يضاهي سوريا في صون الجماعات المتباينة، دينياً على الأخص، وفي استقبال الهجرات الجماعية للمضطهدين وتوطينهم، أي بلد في العالم”. نعم، هذا المقتطف الطويل من كلمة أدونيس في المؤتمر، وليس من نص مدرسي تلقّنه للتلاميذ مدراسُ البعث، وليس أيضاً من أحد برامج الترويج السياحي السمجة التي عُرف بها سابقاً التلفزيون الحكومي السوري. وهو كما نرى يقتفي أثر تلك المقولات الرسمية في إنكار الواقع السوري الذي لم يكن يوماً بهذه الصورة الوردية، وإن لم يكن أيضاً قاتماً تماماً، ولكن ألّا يوجد بلد في العالم يضاهي سوريا في صون الجماعات المتباينة فهذه جرأة تُحسب لأدونيس، على الأقل بالمقارنة مع المظلومية التاريخية التي درج على تناولها شعراً ونثراً.
كنا لنردّ الإنشاء الأدونيسي عن سوريا إلى أيديولوجية سورية يعتنقها الرجل، لولا أنه في حوار مطول قديم مع الفرنسية شانتال شواف، نشرته بالعربية دار بدايات عام 2005 بعنوان “الهوية غير المكتملة”، يتناول الواقع السياسي في المنطقة فيشير إلى ديكتاتورية صدام حسين الطائفية وإلى طائفية النظام اللبناني وخدعة الحريات فيه، ولا يرى بذور الدولة إلا في مصر، بينما يصمت تماماً عن الوضع في سوريا، أي أنه ينتقد الوضع القائم في “الإقليم السوري” فيما عدا الوضع في سوريا ذاتها. ولعل من مفارقات ذلك الحوار، على صعيد منفصل عن السياسة، أن المفكر الحداثي يصرّح بعجز منجزات الحداثة كافة عن الإلمام بعلاقته بأمه بما فيها منجزات فرويد وعلم النفس، لكنه ينسى ذلك عندما يتحدث عن نشأته وعلاقته بالطبيعة فيقول إنه كان يضاجع الأرض، مستطرداً وهذه المرة للتأكيد على انتسابه للأسطورة الأدونيسية: ربما كانت الأرض هي أمي!
بالعودة إلى كلمته في مؤتمر جنيف، يرى أدونيس الديكتاتورية كبنية اجتماعية ثقافية أولاً، ومن أجل أن تكون الثورة “حقيقيةً” يضع عليها مجموعة من الاشتراطات يختصرها بما يعتبره ألفباء أية “ثورة حقيقية”. المقدمة التي يراها لذلك هي الفصل الكامل بين ما هو ديني، من جهة، وما هو سياسي ثقافي اجتماعي من جهة ثانية. هذه جرأة أخرى متقدمة لم يسبق أحد أدونيس إليها، فمن المعلوم أن العلمانية تقضي بفصل الدين عن الدولة، أما فصل الدين عن الثقافة والاجتماع فهو اشتراط لم تصل إليه حتى اللائكية الفرنسية التي عاش في كنفها طويلاً. أبعد من ذلك، لا معنى أصلاً لفصل الدين عن الثقافة والاجتماع، فهو لم يكن يوماً أسير المعابد فقط وكان دائماً من المؤثرات الاجتماعية والثقافية الأساسية، مع اختلاف نسبة حضوره وفعاليته من مجتمع لآخر. بل إن نصوص أدونيس نفسها تزخر بالثقافة الإسلامية، وبلاهوتها ولاهوت التصوف أحياناً، ورغم أنه يستحضر ذلك الإرث تحت يافطة إحياء الهامشي، إلا أن ذلك الهامش ليس إلا جزءاً من متن أساسي، لا ينقض من ذلك أنه يفترق عنه أحياناً أو يتصارع معه أحياناً أخرى.
يعلم أدونيس تماماً أن لا وجود لثورة عبر التاريخ فعلت ما يطلبه الآن من الثورة السورية، أو من أية ثورة عربية أخرى، وهو إن كان يستلهم الثورة الفرنسية وعداءها لرجال الدين آنذاك فالعبرة حينها ليست في معاداة الدين بوصفه إيماناً، وإنما بسبب التحالف القذر بين الكنيسة والملكية والسطوة الكبرى التي امتلكها رجال الكنيسة بدءاً من محاكم التفتيش. إن المقارنة الحقة مع الثورة الفرنسية يمكن أن تبدأ من شعارات النظام، “الأسد إلى الأبد” على سبيل المثال، ومن الأفضل البدء بها بممارسات شبيحته وهم يجبرون الناس على السجود لصورة رأس النظام والقول إن بشار هو ربهم، ففي هذه الشعارات والممارسات ما يمكن مقارنته بالواقع السائد قبل الثورة الفرنسية، فضلاً عن أن الأخيرة ليست بدء الثورات في التاريخ ولا تمامها.
لن نصل إلى التذكير بحماسة أدونيس نفسه لثورة الخميني في إيران، وبالمقالات العديدة التي دبّجها في مديح الثورة الإسلامية هناك، فلعل تلك “هفوة” من هفوات المفكّر الحداثي، وبالطبع لا يجوز القياس عليها لتبرير مدائح مشابهة اليوم. لكن تلطيه وراء العلمانية يبلغ مدى يتنافى مع كل الديموقراطيات المعروفة، ويتعالى لا على الثورة القائمة الآن بل على ما أنجزته الثورات في تاريخ البشرية ككل. الثورة التي يضع أسسها هي ثورة مستحيلة، لا لأنها موجودة في رأسه فحسب، وإنما لأنه ببساطة، وبعيداً عن الإدعاءات الحداثية، يعيد إنتاج المثَل التقليدي: مَن لا يريد تزويج ابنته يرفع من قيمة مهرها.
قبل نحو عقدين من الآن، تضامن المثقفون السوريون بغالبيتهم مع أدونيس، عندما قام اتحاد كتّاب النظام بفصله، على خلفية حضوره مؤتمراً حضره إسرائيليون؛ يومها كان التضامن بالدرجة الأولى مع حرية أدونيس وضد آليات القمع التي ينتهجها النظام إزاء حرية الرأي، وانسحب البعض من اتحاد الكتّاب رغم إعلان اختلافهم مع أدونيس وتوجهاته. هذا هو الحد من التضامن الذي كان البعض ينتظره من أدونيس، وهو يرى “أشقاءه” السوريين يُقتلون على أيدي قوات النظام لا لذنب سوى أنهم نادوا أصلاً بسوريا ديموقراطية لجميع أبنائها. في البدء اتخذ أدونيس موقف المتشكك إزاء شعارات الثورة، وكأنه كان يتحين وقت ظهور تيارات متطرفة مناوئة للنظام ليتنصل من واجبه الأخلاقي تجاه جرائم الإبادة، أو كأن السوريين يستحقون كل ما يحدث لهم اليوم لأنهم ليسوا أدونيسيين كما يجب!
المستقبل