صفحات سوريةعمر قدور

ذُهان البعث

 

عمر قدور

 لولا الثورة السورية لكانت قيادات البعث تحتفل الآن باليوبيل الذهبي لـ”ثورة البعث”، وتعيد على المسامع سرد إنجازات الحزب منذ استيلائه على السلطة قبل نصف قرن. وهي، كما حفظها السوريون غيباً، انجازات تبدأ بوجود رغيف الخبز ولا تنتهي بوجود الكهرباء التي لم يتنعموا حتى بتوفرها على مدار الوقت. هكذا قد يكون من محاسن الثورة تخليصها السوريين من عبء  الشعارات المكرورة في كل مناسبة من مناسبات النظام، على الرغم من أن الأخير يبدي دأباً في ترجمتها إذ يقوم فعلاً بتدمير ما بُني خلال نصف قرن، وينذر بإعادة عدد سكان سوريا إلى العتبة التي كان عليها آنذاك!

لم يكن متوقّعاً في ظرف مغاير للآن أن يبادر الحزب إلى مراجعة نقدية لفكر الحزب ومآلاته، وهو لم يفعل عندما ألحّت الظروف بانهيار شقيقه التوأم في العراق قبل عشر سنوات، الأمر الذي يؤكد على أنه سلك مساره التاريخي المحتوم، وعلى أن نظامي صدام والأسد هما المحصلة المنطقية  لـ”ثورتي” الحزب في البلدين. لا لأن ما حدث قد حدث فعلاً، وبالتالي غابت الممكنات الأخرى، ولكن لأن الفكر البعثي لم يحمل حقاً تلك الديناميكية التي تجعله مفتوحاً على احتمالات متعدّدة. فالبعث منذ البداية يعرّف نفسه كتنظيم انقلابي، وكان انقلابه العسكري في العراق ومن ثم في سوريا تجسيداً أميناً لأيديولوجيا الحزب. وما سُمّي ثورة حينها تدحضه الثورات العربية الحالية التي أتت بمدّ شعبي حقيقي ولم تتوسل السلطة على دبابات العسكر.

لئلا نحسن الظن، لم يكن تعريف البعث لنفسه بأنه انقلابي يعبّر عن قطيعة أبستمولوجية باستخدام ألفاظ ذلك الزمن، فهو كان مشفوعاً بالتركيز على مفهوم الطليعة الثورية التي تقود الجماهير، وتدرك مصالحها أكثر منها، وتضحّي بها عند اللزوم. ولا يستقيم أصلاً زعمه بالحداثة، لأنه بنى سرديته أسوة بأية أصولية على تاريخ غابر لم يعد له من سند واقعي سوى التعويل الإرادوي على استرجاعه. كأي نص مقدس، رأى البعث في العروبة “رسالةً خالدةً”، من دون اكتراث بأن العروبة في ذلك الزمن أتت محمولة على النص الإسلامي والتوسع الإمبراطوري التبشيري، ما يجعل المزاعم الإسلامية أولى بامتلاك ذلك التاريخ التليد.

ليست مصادفة البتة أن وجد البعث، وأمثاله من التنظيمات القومية، ضالّتَه في الاشتراكية القومية ممثلة بالنازية، فهذه القشرة الحداثية تشرح تماماً رؤيته للجوهر النقي الخالد، وتتفق بخاصة مع تصوّره للعنف كوسيلة فضلى لتحقيق أهدافه. ومع أن الحزب تأسس إثر هزيمة وسقوط النازية إلا أن مؤسسيه لم يعوا الدرس التاريخي، ولم يشغل بالهم أبداً مصير ملايين الألمان الذين ضحّى هتلر بدمائهم تحت ادّعاء تفوّق وعظمة تلك الدماء. من هذه الوجهة أيضاً كان البعث يستلهم التوتاليتارية القومية بكافة مندرجاتها من العنف والإرهاب، باستثناء الحداثة الصناعية التي كانت أحد أوجه قوتها، وكان قريباً جداً من استلهام الطموح الاستعماري، لولا أن أدبياته اكتفت بالتحسّر على الأندلس “المُضيّعة”!.

صحيح أن البعث توارى عن مقدمة الصورة في أثناء الثورة السورية الحالية، وبدا النظام أقرب إلى توصيفات أخرى من كونه بعثياً، إلا أن ما يبدو على أنه استقلال للديكتاتورية عن مقدماتها الأيديولوجية ينبغي ألا يُنسي الأصل، وألا يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه النتيجة هي انحراف عنه، وبخاصة ينبغي تذكر المآلات المأساوية للإشتراكية القومية في كل تجاربها. لا تعد الثورة باستئصال البعث السوري، على النحو الذي حدث في العراق، لكنها تنهي تاريخاً مديداً من الانفصال عن الواقع أسس له البعث أولاً، وليس مستغرباً تجليه في سياسة الإنكار التي يعتمدها النظام. أبعد من ذلك، لم يكن منتظراً من ثقافة الشعارات التي نشأ عليها رجالات النظام إلا أن تؤدي إلى الأداء اللغوي الذي مارسوه منذ بدء الثورة، ما يضيف إلى الانفصال عن الواقع فرضيةَ الإصابة المعمّمة بالذُهان.

لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، لعل هذا أهم ما تضعه تجربة البعث أمام أي تطلع قومي مشابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى