«رابطة الكتّاب السوريين» والحوت وليد الزعبي!
عمر سليمان
ثمة سؤال يلحُّ علينا بعد عام ونصف العام من عمر الثورة السورية: هل خرج السوريون لإسقاط نظام بشار الأسد أم لإسقاط منظومة القمع والإقصاء والفساد التي ربضت فوق إرادتهم وحقهم في اختيار مؤسساتهم وبنائها لإثبات وجودهم كمواطنين فاعلين في المجتمع منذ أن استولى «حزب البعث» على السلطة قبل خمسين عاماً؟ بلا شك خرج السوريون لإسقاط المنظومة، وإلا ما معنى أن نُسقط نظام الأسد بعقلية نظام الأسد نفسها؟ واليوم، ونحن نرى ما يعانيه الشعب السوري من مجازر وبطش وتنكيل تكاد تدفعنا إلى الجنون والانتحار، وما نشهده من وحشية لا يحتملها العقل الآدمي فضلاً عن الضمير الإنساني، تنتابنا صدمة أخرى عندما نرى مجموعة من السوريين الذين رفضوا نظام بشار الأسد وما زالوا يستخدمون أساليبه القائمة على إقصاء الآخر وتهميشه إن لم ينضمّ إلى منظومتهم القائمة على الشللية والشخصنة.
لقد اتضح منذ الشهور الأولى من الثورة، وبعد تشكيل ما سُمِّي بـ«المجلس الوطني السوري»، أن المعارضة السورية لا تختلف عن النظام بشيء، فعقلية الإقصاء والسعي للوصول إلى السلطة عبر الارتباط بأجندات دول انحنى «المجلس الوطني» لها منذ اللحظة الأولى لتشكيله كانت السمة الأبرز لهذا المجلس، بدلاً من أن ينحني للشعب السوري ومطالبه المحقة، ظناً منه أنه يستطيع الالتفاف على الثورة إذا ما سمح لتلك الدول، وعلى رأسها دول الخليج والولايات المتحدة، بتخليص الشعب السوري من النظام بأيّ طريقة شرط أن يضمن أعضاؤه مصالحهم ومناصبهم المستقبلية على غرار ما حدث في ليبيا، لهذا اتضح لكل ناشط في الثورة السورية في الداخل والخارج أن هذه المعارضة ممثلة بـ«المجلس الوطني» ليست شريفة ولا وطنية، لأنها لم تضع على رأس جداول أعمالها في مؤتمراتها المنعقدة في فنادق إسطنبول وباريس وروما والقاهرة أن هناك دماً سورياً ينزف، ومع مرور الوقت اكتشف الشارع السوري اللعبة فأسقط «المجلس الوطني» الذي تاجر بدمائه وتضحياته وشهدائه.
ولأن المثقف يلعب الدور الأكبر في استمرار الحراك الثوري وفي نشر التوعية بين أبناء مجتمعه وفي تمزيق منظومة الفساد والإقصاء، فإن الثقافة هي القضية الأكثر حساسية والأشد خطورة، وهي المعوَّل عليها في بناء سوريا المستقبل، وليس على المعارضة السياسية، لذا فمن المفاجئ أن ينضويَ المثقفون تحت لواء مؤسسة تستخدم الوسائل ذاتها التي استخدمها «اتحاد الكتّاب العرب» ووزارة الثقافة، لكن بلباس آخر و«بريستيج» جديد، عن طريق إنشائهم لمؤسسة يُفترض أنها قد تحرَّرت من الشللية والفساد، علماً أن ما يهمّنا هو إسقاط العقلية وليس المؤسسة، فلا يهمّنا إسقاط «اتحاد الكتّاب العرب» و«وزارة الثقافة» على سبيل المثال، لأن هاتين المؤسستين هما ملك للشعب السوري وليس للنظام.
لم يكن للسوري موطئ قدم في الساحات الثقافية والسياسية وسائر مؤسسات الدولة في حال لم يرفع القبّعة للمؤسسة الأمنية، والأمر ينسحب على الكتّاب والمثقفين بالطبع، لذا فإن أسماء ثقافية كثيرة لم تتضرَّر من نظام الاستبداد، بل على العكس، أخذت تلك الأسماء فرصتها بسبب انضوائها تحت عباءة المؤسسة الأمنية، أي «اتحاد الكتاب العرب» و«وزارة الثقافة» (بين قوسَين)، ولا تحتاج سياسة هذا الاتحاد الفاسدة والإقصائية إلى شرح وتفصيل لكل من كان على صلة به من قريب أو بعيد، لهذا فقد كان على رأس المؤسسات التي أراد السوريون (وعلى رأسهم الكتّاب الشرفاء الذين حرمهم هذا الاتحاد من أبسط حقوقهم في النشر والنشاط الثقافي) إسقاط العقلية التي تُديره، وذلك في سبيل إعادة هيكلة مؤسسة حرّة وديموقراطية قائمة على المشاركة الحقيقية من قبل الكتاب والمثقفين السوريين كافة.
رعاية حيتان الفساد!
رجل الأعمال السوري وليد الزعبي، الذي عاد سنة 2006 بعد غياب طويل عن سوريا، فدخل في شراكة مع حوت الفساد رامي مخلوف الذي سرق السوريين ونهبهم بشركتَي الاتصالات المعروفَتين («سيريتيل» و«إم. تي. إن») وبسواهما من شركات الاستثمار، أعلن وقتها تحت كذبة قانون الاستثمار القائم على الخصخصة وتبييض الأموال في سوريا عن بناء «مركز دمشق التجاري الدولي» كجزء من مشاريع «مجموعة تايغر» الشهيرة بالأعمال العقارية، وقد كانت كلفة ذلك البناء وفق إحدى تصريحاته حوالى 700 مليون دولار، ويكفي أن يكون الزعبي مستثمراً بهذا الحجم في ظل نظام العصابة الحاكمة ليقدّم اعتذاراً رسمياً للشعب السوري على ما ارتكبه، لا أن يفكر بعقلية التاجر المصلحي فيوقف مشاريعه الخاسرة في سوريا بسبب الخراب الذي حلَّ فيها ثم يقوم بدور الراعي الرسمي لما يُسمَّى «رابطة الكتّاب السوريين»!
وبما أن «دود الخل منو وفيه» فإن الأسماء المؤسّسة لهذه «الرابطة» لم تكن مغبونة في ظلّ حكم الأسد. رشا عمران على سبيل المثال، والتي ظلَّت موظفة في «اتحاد الكتّاب العرب» لأعوام طويلة، كما أقامت «مهرجان الملاجة» الشهير تحت رعاية النظام الرسمية لأعوام طويلة أيضاً. ولأن «رابطة الكتّاب السوريين» قائمة على المحاصصة الطائفية شأنها شأن «المجلس الوطني»، فقد أصبحت عمران نائبة لرئيس «الرابطة» كممثلة للطائفة العلوية (!) وجورج صبرا عضواً في المكتب التنفيذي لهذه الرابطة كممثل عن المسيحيين (!) وما سبق لا يعني إقصاء الأقليات، لكن هل خلت هذه الأقليات من مثقفين حقيقيين حُرموا من أبسط حقوقهم أيام نظام الأسد؟ وجميعنا يعلم كَمّ الأسماء المحسوبة على الأقليات والتي رفضت دخول مؤسسات «البعث» منذ أن استولى على الحكم، كما رفضت الدخول في «المجلس الوطني» لأنه يملك العقلية ذاتها التي تعتمد على التقسيم الطائفي.
ومما يزيد صدمتنا أن اجتماع «الرابطة» الأخير في القاهرة كان بحضور كل من رئيس «المجلس الوطني» ورئيس «الجيش السوري الوطني»! فهل أراد أعضاء «الرابطة» أن يفرضوا رابطتهم على الكتّاب السوريين بالمال السياسي وبقوة السلاح؟ أين فصل المؤسسات؟ علماً أن معظم أعضاء المكتب التنفيذي وأعضاء الأمانة العامة لـ«الرابطة» لم تكن لهم مشاركة فعلية في الثورة السورية، فهم يعيشون خارج سوريا منذ أعوام أو عقود. وما يُصيبنا بالمرارة أن بعض أعضاء «الرابطة» لم ينسحب حتى اللحظة من «اتحاد الكتّاب العرب»! فهل أصبحت المسألة استبدال مناصب بمناصب، وكراسٍ بكراسٍ بالعقلية ذاتها وبالمنطق الإقصائي ذاته؟
وهنا نوجِّه السؤال الآتي لمؤسّسي «الرابطة»: أين الأسماء التي أعلنت موقفها منذ بداية الثورة السورية فانسحبت من «اتحاد الكتّاب العرب»؟ أين هي من المكتب التنفيذي لرابطتكم الكريمة، علاوة على الأسماء الشابة التي لم تجد صوتها إلا من خلال هذه الثورة، والتي داخ أصحابها بين كراسي مناصبكم (كأعضاء اتحاد كتّاب عرب سابقين) وبين وزارة الثقافة لكي يستطيعوا نشر كتاب أو مقالة؟
كان من أضعف الإيمان يا مؤسّسي «رابطة الكتّاب السوريين» أن تنسحبوا منذ اللحظة الأولى من «اتحاد الكتّاب العرب» كتعبير عن وقوفكم إلى جانب أطفال درعا وشهداء حمص وبانياس، فقد أعلن المثقف المهمّش والمحروم والشريف عن موقفه منذ بداية الثورة، وكان من البدهي أن يكون بعض الشباب المثقف الذي لم يستفد من منظومة آل الأسد في مقدّمة صفوف الثوار الواقفين أمام الرصاص والدبابات.
لم تكن الثورة السورية على نظام الأسد فحسب، بل على المنظومة الفاسدة أيضاً وأولاً، وليضَع أعضاء «رابطة الكتّاب السوريين» نصب أعينهم أن الدم السوري لم يُرق حتى يعود السوريون إلى النظام السابق بشكل آخر، فالثورة مستمرة، والرفض مستمر، ومن لم يسقط بالأمس سيسقط اليوم وغداً، ودم الشهداء خط أحمر سيسقط كل من يتجاوزه لأجل مصلحته الشخصية، والشعب السوري لم يقدَّم تضحياتٍ تفوق الوصف إلا من أجل التغيير الحقيقي. وكان أولى بأعضاء «رابطة الكتّاب السوريين» (بعد أن يحصلوا طبعاً على مموّل نظيف لا يشبه الزعبي) أن يستشيروا الأسماء الشابة الثائرة حول كيفية تشكيل هذه «الرابطة»، لا أن يؤسّسوها وحدهم ثم ينصّبوا أنفسهم ممثلين عن كتّاب سوريا!
كلمة إلى العظم
أما صادق جلال العظم، والذي نحترمه كجزءٍ من تاريخ سوريا المشرّف، والذي انتُخب رئيساً لـ«الرابطة» فهو مُطالب بالانسحاب الفوري من هذه المهزلة، لأن الشعب السوري لم يعد يحتمل مزيداً من التشكيلات الفاشلة التي تتاجر بدماء أبنائه. فمن الواضح أن «الرابطة» تستخدم اسم العظم لتغطي على فعائلها المصلحية، على غرار ما حدث في «المجلس الوطني» الذي احتمى باسم برهان غليون كمفكر وكاتب. ولأن زمن السكوت لدى السوريين قد انتهى منذ عام ونصف العام، فإن كل مثقف سوري انضمَّ إلى هذه «الرابطة» مطالب بالانسحاب الفوري انتصاراً للضمير والأخلاق والشرف وشباب الثورة الذين قدَّموا حياتهم في سبيلها.
علينا أن ندق ناقوس الخطر إزاء ما يحدث، لأن الأمر يتعلّق بالثقافة السورية، أي بمستقبل السوريين جميعاً، فمن دون ثقافة حقيقية تلامس المجتمع وتتلمَّس أوجاعه وصوته من خلال المؤسسات النظيفة لن نستطيع بناء بلد سيتركها آل الأسد خالية من كل شيء سوى الخراب إضافة إلى مومياءاته المحنّطة، والتي لن تكون شريكة بحال من الأحوال في سوريا المستقبل.
«الغاوون»، العدد 52، 1 تشرين الأول 2012