صفحات الرأي

راديكاليون/ عباس بيضون

 

 

لم يتوقع أحد. جرى ذلك بسرعة لم نتمكن معها من التقاط أنفاسنا. فجأة لم “تعد دولة العراق والشام” مجرد عنوان، صارت واقعاً. تمددت من الرقة إلى الموصل وغطت مساحة على الخارطة تعادل بضع مرات مساحة الدولة اللبنانية. كيف أمكن أن يحدث ذلك. هل كان العراق منخوراً إلى هذا الحد، بحيث تهاوت قوائمه أمام أول ضربة. هل كان ضعيفاً ومتهافتاً إلى درجة ان صار اجتياحه ممكناً بعدة مئات أو آلاف. هل كانوا مئات أم آلافاً، وماذا حدث فعلاً. لا أحد يملك الرواية الحقيقية ولم ننتبه إلى دلالة هذا البقاء في الفلوجة. قيل انهم تركوهم يبقون كي لا يقوضوا الفلوجة على أهلها. لم يخطر انهم بقوا لأن لا سبيل إلى إخراجهم ولأن خروجهم سيكون ليتمددوا ولينتشروا في عدة محافظات. عندئذ فقط صار ممكناً الكلام عن سياسة المالكي التي ظلت بالنسبة لنا غامضة بحيث لم نقدر بحق انتفاضة الأنبار وإصرار أهلها على الاستمرار فيها. صار الآن ممكناً جمع هذه الوقائع وربطها ببعضها بعضاً. خرجت أيضاً من العراق معلومات جديدة. قيل ان المالكي تجاهل مقاتلي الصحوات ولم يقبل بإدراجهم في الجيش والتعويض عليهم، رغم ذلك بقي علمنا بالواقع العراقي ضئيلاً. بقي علمنا بما جرى قليلاً ولم نتخط أبداً التفاجؤ والدهشة. هل كان الجيش العراقي فعلاً على هذه الدرجة من الضعف. هل أدار ضباطه وجنوده ظهورهم ونزعوا النجوم عن أكتافهم وغادروا! والعشائر هل تواطأت فعلاً، العشائر التي ضجت من القاعدة وأرغمتها على الانسحاب، كيف عادت وقبلتها واحتضنتها. هل كان حكم المالكي طائفياً بل مغرقاً في طائفيته. هل كان ثأراً طائفياً واستمر كثأر وكيف كان ذلك بالوقائع، وهل كان تاريخ العراق منذ الاحتلال الأميركي إلى يومنا هذا حرباً سرية بين الطائفتين الكبريين. لماذا فاتتنا هذه الوقائع، في حال حصولها، وهل باتت سياسات كهذه بديهية بحيث لا يهتم كثيرون بمعرفتها ولا يبادر كثيرون إلى إعلانها.

ثم إلى أين وصلت وزارة الإنقاذ، وزارة المصالحة، التي أوحى بها حتى السيستاني وقلنا يومها انها صارت أكيدة وانتظرنا آخر الشهر وأول الشهر لإعلانها لكن الحديث عنها اختفى ولم يعد دارجاً. يمكن ان نقول اننا لا نعرف كثيراً عن العراق، لا نعرف كثيراً عن الحرب الدائرة هناك. تكلموا عن حرب تكريت ثم سكتوا، بدأ كلام عن جيران العراق: إيران والسعودية وتركيا. قيل ان لهم ضلعاً بل أضلاعا في ما يجري وسيكون عليهم تبعات في الحل، لكن ككل شيء في هذا المجال، سمعنا كثيراً ولم نر شيئاً.

سمعنا أيضاً كثيراً عن أميركا وأوروبا لكنه كان كلاماً فحسب، كلاماً متضارباً ولا وقائع على الأرض. أرسلت الولايات المتحدة 300 مستشار لكن السلاح الذي أرسلته، قيل انه شحيح ولا يكفي لأكثر من يوم. يستمر ذلك الغموض رغم أن كل شيء خرج إلى العلن، غموض لا نعرف سببه الفعلي. ثمة حرب وثمة دولة جديدة، ليست أي دولة، انها دولة القاعدة، القاعدة التي أوشكنا على الظن بأنها زالت، هي الآن دولة بين دولتين. لا يبدو أن ذلك يقلق العالم بالدرجة التي نتوقعها. يبدو أن حصر التنظيمات الجهادية في المنطقة أمر لا يخيف أحداً في الغرب. المهم أن تكون بعيدة، أما المنطقة نفسها فمنذ اندلعت في سوريا بدا أن لا مغبة من أن تنتقل الحرب إليها، بدا أن تركها تتآكل وتنخر وتتهاوى أمر لا يقض المضاجع بل هو مستحسن، فأن تنقل هذه التنظيمات عديدها وعدتها إلى داخل بلادها وأن تتحرك على أرضها وبين ناسها، خير من أن تضع نصبها الغرب الأميركي والأوروبي. ثم ان اجتماعها في العراق وسوريا يسهل النيل منها حين تحين الساعة ويحم القضاء. ذلك للأميركيين والأوروبيين خير من اندساسها في حياتهم وتهديدها لهم، خاصة أن في بلادهم حاضنة بل حاضنات طبيعية هي المسلمون المتكاثرون هناك. ليس للانكفاء الأميركي منذ الأحداث السورية تفسير أقرب وأكثر بداهة.

أقوياء الذاكرة يتعجبون من أن الأمور وصلت إلى هذا الحد. انها بالنسبة لهم تسير القهقرى وتتراجع. لقد عاشوا أياماً غير هذه الأيام. في أواسط القرن الماضي لم يكن للدين ما له اليوم من سطوة. كان على الأقل ديناً كما عرفوه وكما ورثوه وكما وصل إليهم، لم يكن هناك وجود محسوس للأمراء والجيوش والشرع المحسوب، كان الناس يومذاك أكثر حرية في دينهم يمارسونه كما يحبون وكما يفهمونه وبالطبع كان ثمة فسحة في ذلك. تسفر النساء ولا يلومهن أحد على ذلك. ويتصرف الرجال على هواهم ولا يتصدى لهم الآخرون. كانت الطوائف متعايشة أكثر ولم يكن بينها الشقاق الحالي، وإذا دخلت الطائفية في السياسة كان ذلك بقدر من الخفية والتستر، بالطبع كان هذا محسوساً ويبتعث الضغائن وربما الانتفاضات، لكن الناس مع ذلك كانوا أحراراً أكثر في دينهم وسياساتهم. لذا نجد من ينعون على الحاضر انه خطوات واسعة إلى الوراء بالقياس إلى ما كانوا عليه، يريدون من ذلك أن يقولوا أن للحرية تراثاً عندنا، وأن للتعدد ماضياً، واننا حين نحاكم الحاضر بمعايير الماضي نجد أننا لا نني نتقهقر ونتخلف.

ليست هذه المحاكمة، على صحتها، صائبة. في أواسط القرن الماضي شمل الناس وخاصة جماهيرهم وأوساطهم تسييس متزايد طوى في السياسة جماهير متكاثرة فدخلت هذه في ثقافتها وفي انتماءاتها، وكان من عواقب ذلك موجة من التحرر لم تلبث أن صدمت بنتائج المد القومي منذ 1967 إلى التسعينيات من القرن. أثناء ذلك وبعده كانت القضية الفلسطينية لا تزال تفعل وحصلت مسألة أفغانستان فانتقل هذا التسييس المتزايد إلى الموروث الديني والطائفي والقبلي والمناطقي. ما بدا ذلك الحين تراجعاً كان في حقيقته انضواء جماهير أوسع وانضواء عصب تقليدية، خاصة في العمل السياسي، هذه العصب كانت تغدو أكثر فأكثر راديكالية، راديكالية قربتها من إسلام محارب وراديكالي هو الإسلام الوهابي

هل كان المالكي، وهو من حزب الدعوة، راديكالياً وما هو النموذج الراديكالي الشيعي. هل نجده في الحكومة الإسلامية في إيران، هل نجده لدى تنظيمات شيعية راهنة، هل كانت راديكالية المالكي ثأراً طائفياً. لا نعرف كل شيء عن العراق، بل لا نعرف شيئاً كثيراً، وقد تكون راديكالية المالكي من “مجهولاتنا الواسعة”.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى