“راويات” مهى حسن في مقهى شهرزاد/ شيرين أبو النجا
تحفر كأنها تحاول الوصول إلى جوهر ما، تفتش في الرمل بمجهر، تحاول التقاط ذلك الخيط الذي يفكك الحكاية كلها ليثبتها، خيط جاك دريدا الذي يفرط المعنى الثابت ليكشف عن طبقات المعنى. هذا ما تفعله الكاتبة السورية مها حسن في أحدث كتاباتها «الراويات» (التنوير، 2014)، وإن كانت فعلت ذلك من قبل في «حبل سري» (رياض الريس، 2010) في شكل مختلف. أمّا الكتابة فهي دائماً بمثابة همّ للشخوص، بحيث تتحول الكتابة، أو بالأحرى التدوين، إلى أرق دائم لشخصيات مها حسن. كأنّها تُحملهم همّها لتعيد وضعه في إطار سردي – من المفترض أنه تخييلي – أقول من المفترض، لأن النص بأكمله يدور حول إشكالية الكتابة. تلك الإشكالية التي طرحها من قبل إدوارد سعيد في شكل ثلاثة أسئلة: من يكتب؟ لمن نكتب؟ من يقرأ؟… وإذا كان سعيد قد طرح أسئلته ليعيد قراءة المشهد النقدي، فإن مها حسن تطرح هذه الأسئلة لتعيد قراءة إشكالية (نعم لا تزال إشكالية كبيرة) الكتابة النسوية. الطرح الأساسي الذي تنسج حوله الكاتبة نصها هو أن الرواية هي المهمة وليس الراوي/ة، وليس القصد هنا هو موت المؤلف كما طرحه ميشيل فوكو، بل العكس تماماً. الهدف هو البوح وإطلاق الروح من أسر المختبئ والمدفون، البوح الذاتي، ولكل واحدة حكايتها التي تثري حكاية قبلها وتُكملها. ويُعد البوح هو أحد أهم النواقص التي يؤشر عليها النقد (الذكوري) في كتابة النساء، فتشتبك مها حسن مع ما يُعد نقيصة بنص كامل يؤسس نفسه على نقائص أرستها المؤسسة الرسمية فأعلت فيها الكتابة على التدوين، وأعلت التدوين على الحكي الشفوي. تقول واحدة من راويات مها حسن: «التدوين يعني النشر، والنشر يعني تشويش الآخر، ودخوله حاجزاً بين الكاتب والكتابة، ويحرّف الفطرة. الكتابة فطرة وتدوينها يحرّفها. الكتابة فطرة تحتاج إلى الاستمرار في فعل الكتابة في الرأس لا على الورق، ولا في الحواسيب» ( ص180).
تعود الراويات والراوية إلى الأصل: حكي شهرزاد، فتحتل شهرزاد مساحة الذاكرة، ومركز السرد، وتتحول إلى راوية، حتى تصل إلى كونها دالاً على الحكي، مدلوله هو النضال من أجل الاستمرار، وتجنب الانقطاع، وفي هذا، تسقط أهمية كاتب الليالي. ولم يبق في المجال النقدي والذاكرة الجمعية الأدبية سوى صوت شهرزاد ودلالاته المتعددة. وبالفعل تبدأ الراوية الأولى في الكتابة من أجل أن تُخرج العالم الذي تعيش فيه على الورق، وتمنح كل ما كتبته لرجل، هو ساباتو أو فرانكو، الذي ينشر المكتوب فيتحول إلى كاتب شهير. لم تهتم الراوية بذلك، فكل ما كان يهمها هو «الرواية» وليس الكاتب أو الكاتبة: «ليس مهماً اسم الكاتب على الغلاف، المهم أن تخرج الحكايات ليقرأ العالم، ويتعرف إلى أبطالي» (ص 79). وقد أعادت الكاتبة العلاقة الوثيقة بين الكتابة والهوية إلى الصدارة عبر تقنية بول أوستر، الكاتب الأميركي صاحب «ثلاثية نيويورك» (1987)، الذي كتب الرواية البوليسية من أجل التنقيب عن قضايا وجودية. وهي التقنية التي كشفت عنها الراوية الأولى من أجل مساعدة القارئ في الكشف عن طبقات النص.
مع الراوية الثانية، يظهر التدوين. فهي تُدون في القرية بينــما تدوّن توأم روحها في المدينة، وعندما تدفع بما كتــبته إلى النشر تموت. مع راويات المرحلة الثالثة يبدأ الحكي الشفوي في «مقهى شهرزاد» في باريــس. فتعود الروح إلى أصلها، وتتسق مع ذاتها.
وعلى رغم المشهد الذي يتم فيه تقطيع الأوراق ونثر كل المكتوب لتفيض طاقته على العالم، يعود النص في النهاية إلى غرضه الأصلي، وهو كتابة الذات. إنها كتابة القصة التي نمتلكها وليس قصص الآخرين. فساباتو عندما نشر قصة غيره أصابته «كآبة اللا موهبة» و«كان يعرف أنه لم يُخلق للكتابة، لكن عناده أقنعه أن الموهبة يُمكن أن تحصل لاحقاً، بالعمل والمثابرة» (119). وتجيء كلمات آخر راوية لتعبّر عن الرؤية كاملة: «عبر الكتابة، تحرّرت أعماقي، وخرجت إلى الضوء. وعبر الكتــابة، كتابتي، لا كتابة غيري، امتلكت أعماقي المنبوذة، شرعية الضوء، والخروج إلى الملأ» (190).
في هذا التدرّج، تعتمد البنية على خطّين متوازيين، الأول هو بنية الليالي، بحيث تتوالد حكاية من داخل حكاية. والثاني يُحوّل البنية إلى العلبة الصينية التي تحتوي علباً مشابهة داخلها متدرّجة في الحجم (كالدمية الروسية الخشبية)، وقد تحوّلت هذه العلبة مصطلحاً أساسياً في السرد ما بعد الحداثي.
تأتي الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكتابة (ماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ ومن يقرأ؟) لتؤكد أن الهدف الأصلي هو تحرّر ذات الراوية من القيود، في محاولة لاستعادة الروح التائهة أو الخاملة أو تلك التي أوشكت على الانتحار، أو تلك الحبيسة في غرفة في المدينة.
ولا يترك النص شكلاً من أشكال التحرّر عبر السرد إلاّ ويوظّفه لمصلحة الفكرة، من فولكور شعبي، أساطير، منحى بوليسي، عوالم جوّانية مبنية على الفانتازيا، صدف لا معقولة، تماماً مثل حكايات شهرزاد، ومثل محاولتها المستمرة في التحرّر من سيف مسرور.
ولا يعود القارئ إلى عالمه إلا عندما يصل إلى الجزء الخاص برحلة واحدة من الراويات إلى مصر، فيظهر التدوين المباشر الذي تسارع الكاتبة إلى انتشال نفسها منه، عبر مشهد فانتازي في الحرم الحسيني، ويعود النص إلى روايته عن راوياته.
وبهذا الحكي الذي يُعيد الاعتبار والاهتمام لمسألة الحكي/السرد/ التدوين/البوح النسوي، تُعيد مها حسن القضية برمتها إلى الصدارة، وتمنح شهرزاد المقعد الرئيس في مقهي الحكي. لا تعتمد رواية «الراويات» (ضمن اللائحة الطويلة للبوكر) على التناص أو على وجود شهرزاد كأحد الشخوص أو بنية الليالي، لكنها تعتمد عليه وتنطلق من الفعل الشهرزادي الخالص: الحكي، وتضيف إليه الحكي عن الحكي.
الحياة