ربيع البوعزيزي» يتعثّر في غابة الرعب السورية
عبدالوهاب بدرخان *
بعد غدٍ يمضي عام على الحدث الذي أشعل أضواء «الربيع العربي». تذكروا محمد البوعزيزي وعربته والنار التي أوقدها بجسده ثم امتدت في هشيم المستبدّين. مات قهراً ولم يدرِ ماذا فعل، ولو درى لما صدّق. بل لو درى لصعقه، هو الشاب الهامشي المسكين، كيف تدحرج نظامان قويّان بهذه البساطة، وكيف أن الغلو في الاستبداد تطلّب «الناتو» لاقتلاع دكتاتور ليبيا، وربما يتطلّب أكثر لإنهاء محنة سورية.
لا يغيّر شيئاً أن تكون الرواية الحقيقية لما حصل مختلفة عما قيل آنذاك، اذ كانت عواصف اللحظة العربية تجمّعت وتنتظر، ولم يقدّر أحد أنها ستنطلق من الريف، أي ريف، لكنها هبّت من سيدي بوزيد. كانت إيذاناً بأن التغيير آتٍ على أكتاف أناس عاديين، وشباب لم يتلطّخوا بتشويهات السياسة، ولا من طريق أحزاب سحقها الحكم القائم أو طوّعها ودجّنها. في ما بعد، اهتمّ الإعلام بتظهير وجوه الثورة المصرية، لكن الحدث الليبي تفاعل، كأن من ثاروا وضحّوا بحياتهم ظلوا بلا وجوه ولا أسماء، أما السوري فلا يزال يدفع الى قافلة الاستشهاد أطفالاً ونساء ورجالاً، ولن يكون آخرهم الطبيب ابراهيم ناهل عثمان، الذي ارتكب جريمة كبرى بتفرغه لإسعاف الجرحى المدنيين كي يمنع «الشبيحة» من الإجهاز عليهم إن هم ذهبوا الى المستشفيات.
لكثرة الدم والإجرام والوحشية بالأمس القريب في ليبيا، واليوم في سورية، نسينا محمد البوعزيزي، أو نكاد، تماماً كما ينسى الغارقون في حروب كبرى الوقائع الصغرى التي قدحت شرارتها. لا نزال نحاول فهم ما حصل والإجابة عن أسئلته. كل ما نعرفه انه كان يجب أن يحصل، بل تأخر كثيراً. لم يكن طبيعياً أن تبقى الشعوب في نومتها الدهرية، ولم يكن متوقعاً أن تدوم أنظمةٌ نشأت أساساً ضد طبيعة الأشياء. قد لا يكون ما يعقبها أفضل، ولو خارجاً من صناديق الاقتراع، فهي حتى في سقوطها تتحكم بما بعدها، لكنه سيتعرض سريعاً لمساءلات ساحات التغيير وشبابها. لا شك في أن «ربيع البوعزيزي» أزاح الستار الحديد عن حقائق كنا نعرفها، ومع ذلك فوجئنا بها: لم تتمكن الأنظمة من إلغاء التاريخ أو مسحه، ولا استطاع الاستبداد تغيير طبائع البشر أو إقناعهم بأن الحرية وهمٌ لا يستحق السعي وراءه. هذا ما برهنته سلسلة وقائع: حجارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ضربة المطرقة الأولى لهدم جدار برلين، انهيار النظام العنصري في جنوب افريقيا تحت وطأة الصبر المانديلي العظيم، انكسار الصمت بعد الصرخة الاولى في تونس، سقوط الخوف في ميدان التحرير، طابور المستشهدين الواحد تلو الآخر على السلم المفضي الى ثكنة بنغازي، صمود الاحتجاج السلمي رغم القصف ومئات الضحايا في صنعاء، و «خربشات» أطفال درعا وما أدّت اليه من سقوط متواصل للموت -الموت نفسه- في سورية…
من أعماق العذاب العربي الطويل خرجت القامات الغاضبة لتباغت نفسها والعالم. وكيفما يكن هذا التغيير، فإنه أنهى عهوداً سُرق فيها الحكم ثم تحوّل هِبةً لعسكريين جعلوا «الحكم الوطني» بمثابة احتلال أجنبي، «انكشاري» أو إسرائيلي، كيفما يكن ما بعدهم، فإنه يعبّر عن مقدار الوعي الذي استطاعت الشعوب تحصيله رغم ضغوطهم الشديدة لإبقائها في الجهل والهوان. في ساعاتهم الأخيرة تفاوتوا في الذل والكبرياء، ويوصف الرئيس اليمني بأنه أكثرهم دهاءً، لأنه استحصل على إعفاء من الملاحقة والمحاسبة، ظاناً بأنه سيُعفى فعلاً، أما الليبي، فقضى بعدما تأكد بأنه تمكن من تدمير البلد، بما فيها مسقط رأسه، ولا يُعرف ما اذا كان السوري يريد لنفسه مصيراً مماثلاً، بل لا يُعرف ماذا يريد أساساً، فهو كأخيه الليبي، لا يتصوّر خياراً آخر غير بقاء نظامه، مع علمه أن هذا لم يعد خياراً، وهو مثل الليبي، يعتبر نفسه «فوق المسؤولية» عما يجري، وإذ قابل قناة «آي بي سي» بقصد مخاطبة الاميركيين، قال: «أنا الرئيس»، كمن يعني «أنا الملك»، وفي الحالين لا يرى الاميركيون «مسؤولاً» آخر سواه، ولو في نظام كهذا، لا هو «جمهورية» بالقيم المفترضة فيها ولا هو «ملكية» في أي حال حتى لو كان الحكم في يد عائلة.
لم يتمكن «ربيع البوعزيزي» بعد من اجتياز غابة الرعب السورية، لكن أياً من رؤوس الأنظمة التي تهاوت لم يستطع أن يهزم شعبه أو يشذّ عن القاعدة الذهبية. وإذ تشابه النظامان الليبي والسوري في تجسيد ارادة القتل لمجرد القتل، فإن السوري تمايز بجعل القتل وسيلة لإعلان بقائه يوماً بعد يوم، لكنه كمن يلفّ حبل المشنقة حول عنقه. ذهب بعيداً في جولات الدم وما عاد يستطيع مجرد التخيّل بأنه سيستمر كما لو أن شيئاً لم يحدث، بل تولى بنفسه نفيَ وتكذيبَ كل ما نُسب اليه سابقاً من حنكة وحسن تدبير أو حتى من قيم استكسبها لنفسه بلا أي سند لها إلا في تراث غابر لم ينتمِ هذا النظام اليه لكنه نجح على الأرجح في تبديده.
منذ طُرحت المبادرة العربية، كان مفهوماً أنها تستهدف مساعدة النظام السوري على بلورة حل متوازن للأزمة، إلا أنه ركّز جهده على احتوائها واتخاذها غطاءً للقتل أو شريكاً فيه، ثم انتقل الى محاولة تضليلها أو تعطيلها بافتعال انقسام عربي، فالذنب هنا ذنب العرب، اذ لم يفهموا أن مطالبتهم بـ «وقف العنف» تعني اسقاط النظام وليس ذَنَبه، اذ لم يترك لشعبه -ولا للعرب- سوى استجداء تدخل خارجي لإنقاذ الشعب من حاكمه. ومع ظهور مؤشرات الى أن «الحل العربي» يتجه الى طريق مسدود، وأنه حتى لو حصل اتفاق مفاجئ على ارسال مراقبين، لم يعد «الخروج الآمن» للنظام قيد التداول الآن، بل الخروج الآمن لرأس النظام، وهذا يوشك مفعوله على الانتهاء، فلا يبقى له بعدئذ سوى السقوط الكارثي. كان «سيناريو علي صالح» وارداً ثم طوي، لأن النظام وافق على تسليم كل المؤسسات باستثناء الجيش والأمن، وكان «سيناريو بن علي» وارداً، ولعله لا يزال، لكن الى حين، إذ ان المكابرة مرشحة لتعطيله. وفي هذه الحال لن يبقى سوى «سيناريو القذافي»… ويكون النظام «نجح» في شراء تسعة شهور بثمن دموي باهظ ليبدأ بعدها ما يعتبره معركته من أجل البقاء، لكن حساباته قد تختلف مع أول ضربة جوية يمكن أن يتلقاها متى اصبحت «المنطقة العازلة» أمراً واقعاً تركياً.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة