صفحات العالم

“ربيع العسكر”.. البائس/ نصري الصايغ

 

 

العسكر عائدون إلى السلطة، فوداعاً أيتها الديموقراطية، وليمضِ الإسلاميون إلى مصيرهم، غير مأسوف عليهم. العسكر عائدون بجدارة «الأمن فوق كل اعتبار»، إلى اللقاء أيها «الربيع العربي»، بعد سنوات أو.. بعد عقود.

الإسلاميون، الذين استباحوا المشهد السياسي بأعدادهم الصماء وفتاويهم الملفقة وانتهازيتهم البدائية وتلاوينهم التكفيرية، كانوا السلم الذي تسلقه العسكر، ليعودوا إلى السلطة، بلا أعباء، تكبدها شباب وفتيات «الربيع العربي».

السيسي رئيساً لمصر. ماذا بقي من «الميدان».

الجنرال حفتر عائد إلى ليبيا، لتأمين نصاب الدولة، التي مزقها الإسلاميون. فماذا بقي من برنار هنري ليفي؟

بشار الأسد عائد مجدداً، للمرة الثالثة رئيساً لسوريا، على صهوة انتخابات بشعار محاربة الإرهاب. فماذا بقي من المسيرة التي اندلعت بعد «أطفال درعا»؟

المالكي، تحمله صناديق الاقتراع المكتظة بالجماهير الطائفية، ليحارب كمدني، بأجهزة عسكرية وأمنية، جحافل «داعش»، والجماعات المؤيَّدة بصحة العقيدة الوهابية. فماذا بقي من وحدة العراق، وأي حرية شعواء، تفتك بالهوية العراقية؟

بورقيبه، عاد للتو من حافة عمره، مجلَّلا بالعجز، لينصبه العسكر، عبر صناديق الاقتراع، ليصبح رئيساً لجزائر، خاض العسكري فيها حرباً بلا هوادة، ضد «جبهة الإنقاذ» الإسلامية، وورثتها من الجماعات المسلحة، التي حولت أرض المليون شهيد، إلى الأرض الذبيحة.. فماذا ظل من حلم الحرية، ذات ربيع تونسي عابر؟

اليمن الذي نأى ربيعه الأول عن العنف، أخذته القبائل إلى الاقتتال في ما بينها، وأخذته فلول «القاعدة» المتناسلة، إلى اقتسام وتقاسم، بعدد الأخوة الستة المتنابذين. فلا يمن بعد اليوم. اليمن الموحد بإرادة وقوة عسكرية ديكتاتورية فاسدة، أخذه الربيع اليمني الحضاري والراقي، إلى يمن متعددٍ ومتعادٍ. فماذا بقي من الحرية والديموقراطية والعدالة؟

لا كلام عن عسكر قديم أو ملكيات متوارثة. الأفضل أن تستمر في البحث عن فهم لحل المعضلة الكبرى: لماذا يتخلف العرب عن اللحاق بالتغيير؟ لقد عرفت أفريقيا تغييراً مذهلاً، باستثناءات تشبهنا. فحيث يتسيّس الدين، يتفاقم الوطن. أوروبا الشرقية خرجت من الاتحاد السوفياتي، فتغيرت وغيرت معها موازين القوى في القارة. كثيرة «الدول الشرقية» التي أصبحت متقدمة في مجالات الحرية والديموقراطية وتداول السلطة وحقوق الإنسان. أما عن أميركا اللاتينية، فحدّث ولا حرج أبداً.

إلا نحن.

إلا نحن العرب.

كان الظن، أن الربيع العربي، أغلق صفحة الاستبداد، بإسقاط رؤوسه في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن، وهدد رؤوساً في سوريا والبحرين، وأرعب أنظمة ملكية سارعت إلى شراء الإصلاح السياسي، بإنعامات ملكية وزيادة رواتب… الربيع العربي الذي أخاف عروشاً مزمنة، متكلسة، صلبة، متخلفة، مهترئة، استبدادية، سارع أمراؤها وملوكها ورؤساؤها إلى شراء الربيع العربي، بالمال أو بالإسلام أو بالاثنين معاً.

هذا الربيع العربي، في بداياته المتفائلة، انقضَّ عليه الإسلاميون، عبر صناديق الاقتراع، وأفرغوا التغيير من محتواه الإنساني والحضاري والقيمي، وجيَّروه لأعدادهم الفقيرة، التي أمّت صناديق الاقتراع، وكأنها في حج أو صلاة أو مناسبة دينية مقدسة، يوجهها أصحاب القرار في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

الربيع العربي الماضي انتهى، إلا قليلاً. ربيع المستقبل غير مسموح به. هذا زمن «ربيع العسكر» البائس. كأن المعادلة التي نشأت بعد اندلاع «مصائر الحرية» في العالم العربي، هي التالية: لا دولة مع الحرية ولا مجتمع موحد مع الديموقراطية ولا حل إلا بعودة العسكر. فليتلُ الثوار الأوائل، فعل الندامة، على فعلتهم الفضلى، الفعلة الرائدة في القضاء على الاستبداد… أو كأن، لا دولة إلا بالقوة العسكرية وبالانتظام القسري الديكتاتوري، الذي يلغي الديموقراطية، بدعوى القضاء على التعدد الإثني والمذهبي والطائفي. وإنقاذ الدولة من عبث الحرية، التي أفقدها الإسلاميون، شرعية الوجود.

أو كأن، الديموقراطية في مجتمع التدين السياسي والتكفير الديني والانقسام الأقوامي وحقوق الطوائف والمذاهب والعشائر والأفخاذ هي ضد وحدة الدولة. هكذا تبدّت الديموقراطية، فعلةً آثمة. استأصلها من الواقع، العسكر القديم والمتجدد والحديث، ونكل بها إسلام سياسي، اعتبر أن البلطجة الانتخابية، بأعداد مليونية مهووسة تؤمن له الفوز بالديموقراطية، بعد تقييدها بالإقصاء والتزوير والتخلف. فالأحزاب الدينية، لا تمت إلى المجتمع المدني بصلة. مجرد وجودها، مضاد للدولة المدنية. نصابها الفكري وسلوكها السياسي، ضد المواطنة. المواطنة عندهم درجات. فلا ديموقراطية مع التدين السياسي. وهذا ثبت بالتجربة. ولا ديموقراطية مع العسكر، فليعد العرب إلى الحظائر المحروسة أمنياً.

ثمة سؤال يُطرح عن تونس. لماذا كانت استثناء. لماذا فازت الديموقراطية، علماً أن «النهضة» الإسلامية ورثت الربيع التونسي، واحتلت الصدارة انتخابياً؟

فقط، لأن الغنوشي ذكي. يعرف كيف يخسر. يعرف كيف ينحني. يعرف أن مصير «الإخوان» في مصر، يمكن ان يعمم ويصبح نموذجاً، تحتذيه ليبيا، وبدأته سوريا وهلم جراً. فقط لأن السياسة عند الغنوشي، ليست مبادئ، بل موازين قوى.

غير أن السؤال يظل: لماذا يقرر الغنوشي الخسارة في ما هو رابح؟ أليس معيباً أن الفائز بأكثرية الأصوات، بالاقتراع، يقرر الخروج من السلطة؟

لا. السبب، ليس ذكاء، بل هو قراءة لواقع بات واضحاً وشديد التعبير: «الإسلاميون» مرفوضون، ولو كانوا أكثرية عددية. مشروعهم، ضد الديموقراطية، ضد الحرية، ضد الحداثة. الذكاء لدى الغنوشي، أفضى إلى فهم الواقع التونسي، فاعتدل، والتقلبات الإقليمية والدولية، فانحسر. بقاء الإسلاميين في السلطة في تونس، هو عامل توتر، قد يطيح بديموقراطيتها الوليدة.

عبثاً… مصائر العرب اليوم هي، إما العسكر وإما الفوضى والعنف.

بئس المصير!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى