صفحات العالم

رثاء المعارضة السورية المسلّحة/ جلبير الأشقر

 

 

تنعقد يوم غد في أستانة، عاصمة كازخستان، الحلقة السادسة من المحادثات الجارية منذ نهاية العام الماضي بين النظام السوري والمعارضة المسلحة السورية بمشاركة سندي الطرفين إيران وتركيا، وتحت إشراف موسكو التي ترتدي إحدى قبعتين حسب الظروف: قبعة سند نظام آل الأسد الرئيسي وقبعة الحَكَم بين المتصارعين وكأنها ليست طرفاً في الصراع.

والحقيقة أن المحادثات المذكورة لم تكن منذ البدء سوى مكمّل سياسي لحملة موسكو العسكرية، وفقاً للتكتيك المعهود القاضي بالسعي وراء تكريس سياسي متدرّج للانتصارات المُحرَزة على الأرض. فقد دشّنت موسكو محادثات أستانة بعد أن لعبت دوراً محورياً في إسقاط آخر معاقل المعارضة في حلب. وقد واصل نظام آل الأسد حملته العسكرية، مدعوماً منها كما من إيران وأتباعها الإقليميين، محققاً السيطرة على مزيد من الأراضي بحيث استطاع الناطق باسم القوات الروسية في قاعدة حميميم الجوّية أن يصرّح يوم أمس أن قوات النظام «حرّرت» 85 في المئة من الأراضي السورية وأن جهودها منصبّة الآن على «تحرير» الجزء المتبقّي.

في هذه الأثناء، يجول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الدول العربية المشاركة في المعمعة السورية ويسمح لنفسه بصفاقة فائقة دعوة دول مجلس التعاون الخليجي إلى التصالح (تصوّروا: يدعو الدول الداعمة للمعارضة الروسية إلى التصالح بينما المنطق البسيط يقضي بأن يكون داعمو النظام السوري على اختلافهم المستفيدين الأوائل من الأزمة الخليجية). ثم يعلن لافروف من عمّان يوم الإثنين أن المملكة السعودية تؤيد مساعي أستانة وما ينجم عنها من صلح سوري. وبينما يؤكد نظيره الأردني على أهمية التعاون بين الأردن وروسيا في الجنوب السوري على الأخص، يسمح لافروف لنفسه ليس لوم الولايات المتحدة، سند النظام الأردني الرئيسي، وحسب، بل أيضاً التأكيد على «شرعية» وجود القوات الموالية لإيران في سوريا شأنها في ذلك شأن القوات الروسية.

والحال، وبعد أن أبرمت موسكو قبل شهرين اتفاقاً مع دمشق يخوّلها التمتّع بقاعدة حميميم لمدة تناهز نصف قرن، أن وزير الاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، كشف يوم الإثنين خلال مشاركته في مؤتمر أمني انعقد في مدينة هرتسليا القريبة من تل أبيب، كشف بأن طهران سوف تبرم قريباً جداً اتفاقاً أمنياً مع دمشق يخوّل قواتها البقاء في سوريا، على طراز الاتفاق الخاص بالقوات الروسية. ومع كل هذه الأنباء، لا عجب من أن تنقل جريدة «الأخبار» البيروتية يوم أمس عن الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني قوله «إننا انتصرنا في الحرب… وما تبقّى معارك متفرقة»، مضيفاً أن «مسار المشروع الآخر فشل، ومسار مشروعنا الذي تحمّلنا فيه الكثير من الأذى مسار نصر ونتائج عظيمة ستغيّر المعادلات لمصلحة الأمة». ويتجلّى من كل تلك الدلائل أن الأوضاع على أسوأها بالنسبة للمعارضة السورية وعلى أحسنها بالنسبة لإيران ولروسيا ومن لفّ لفّهما. وقد ساعد كثيراً على ذلك الإنجاز طعن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمعارضة السورية في الظهر عندما تخّلى عن مساندتها في حلب. كان ذلك لقاء منحه ضوءا أخضر من قِبَل موسكو وطهران لإدخال قواته إلى الأراضي السورية سعياً وراء منع القوات الكردية، هاجسه الرئيسي، من التحكّم بشريط حدودي متواصل بين منطقة الجزيرة ومنطقة عفرين. وأردوغان منشغلٌ الآن بتوطيد علاقاته بموسكو وبطهران، فقد وقّع يوم أمس على عقد سوف تشتري تركيا بموجبه صواريخ روسية إس 400 المضادة للطائرات بقيمة مليارين ونصف المليار من الدولارات، وهي طعنة في ظهر حلفائه الأطلسيين بدءًا بالولايات المتحدة. وقبل أقل من شهر، كان اللواء محمد باقري، أرفع المسؤولين العسكريين الإيرانيين، الرئيس الحالي لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة وأحد أبرز قادة الحرس الثوري سابقاً، قد قام بزيارة لتركيا لتوطيد التقارب الجاري بين البلدين. وهنا أيضاً كمن وراء انعطاف أردوغان هاجسه الكردي، إذ صرّح خلال الزيارة أن تركيا وإيران تزمعان على خوض عمليات عسكرية مشتركة ضد القوات الكردية (نفت طهران صحة مزاعم الرئيس التركي). وبالطبع تبقى واشنطن بالذات هي المساهم الأول والأهم في هزيمة المعارضة السورية، سواء من خلال موقف باراك أوباما الإجرامي بحظر السلاح المضاد للطائرات على المعارضة السورية أو من خلال تخبّط دونالد ترامب المذهل في سياسته إزاء المنطقة العربية كما إزاء روسيا. ومهما تعدّدت الأسباب فإن الموت واحدٌ: أشرفت المعارضة السورية المسلّحة على نهايتها. ومع هزيمتها ينتهي التوازن العسكري الذي كان قائماً حتى العام المنصرم والذي كان يمكن التعويل عليه للتوصل إلى تسوية دولية للنزاع في سوريا لا تذهب معها مأساة الشعب السوري هدراً، بلا تحقيق أي مكسب على الإطلاق.

دخلت المعارضة السورية المسلحة هذا العام في طور الاحتضار، أما الثورة السورية فدخلت هذا الطور منذ خمس سنوات، أي منذ أن حلّت محلّها قوى مسلّحة لا تعبّر عن تطلّعاتها وتعتمد على أصدقاء من نوع الذين يغنون عن الأعداء. إنما الثورة سيرورة طويلة الأمد، وكطائر العنقاء، سوف تنهض الثورة السورية من الرماد بالتأكيد، عاجلاً أم آجلاً.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى