رثاء للأحياء/ راتب شعبو
“يا درعا شو كان بدنا بهالصرعة”، قال السوريون ساخرين على عادتهم، حين كانوا لا يزالون قادرين على السخرية، بعدما لمسوا مدى الموت والدمار الذي عانوه جزاءً على مغامرتهم في الخروج على الحاكم. وقد اكتشفوا أن هناك نظاماً جاهزاً لحرق البلد، وعالماً جاهزاً لعدّ الضحايا وتحديث حسابات تكلفة إعادة الإعمار مع مرور الوقت. الوقت الذي لم يعد يعني للسوريين سوى المزيد من الدم والدمار.
السوريون الذين ملأوا شوارع المدن والبلدات السورية بالتظاهرات المطالِبة بالحرية وأذهلوا العالم في جرأتهم وتضحياتهم، صاروا اليوم يملأون مخيمات اللجوء ومناطق النزوح، وقد تركوا الشوارع للقنص واللصوصية وأبشع أنواع الحروب. العيون التي كانت تلتمع بالتمرد والإرادة، باتت اليوم عيوناً كسيرة ذابلة تكره النظر إلى العدسات. الأصوات التي كانت تملأ الفضاء بهتافاتها العالية، غدت اليوم أصواتاً كليلة تشكو سوء الحال في المخيمات ومناطق النزوح المتبدلة. القلوب التي كانت مليئة بالأمل حتى كادت تشعّ تفاؤلاً، أصبحت اليوم مليئة بالخوف والقنوط. السوري الذي نهض ممتلئاً باليقين، يقعد اليوم تاركاً نفسه نهباً لشتى ضروب التكهن، بدءاً من توقع طريقة مصرعه وفي أيّ أرض يموت، وصولاً إلى التكهن بعدد السوريات (جمع سوريا) الممكنة.
خرج السوريون كي يشقّوا طريقاً توصلهم إلى المشاركة في تسيير شؤونهم العامة. خرجوا كي ينسبوا سوريا إلى أنفسهم ويستردّوها من نسبة شاذة إلى أسرة أو “قائد”. خرجوا كي يكسروا غربتهم عن بلادهم ويجعلوا من سوريا وطناً، فكان أن ازدادوا غربة عن بلادهم التي تبعثرت وأضاعت تعريفها وسط يقظة الانتماءات الأضيق ومتاهة الزواريب وتكاثر السلطات واختناق الآفاق.
تراجعت في زحمة الرصاص والموت السهل والرخيص، أشكالُ التعبير التحررية الشاعرية التي رصّعت بدايات الثورة السورية وزادت من ألقها. غرقت في لجّة القتل الرهيب المتبادل، صورةُ الصبيّة السورية التي وقفت أمام البرلمان السوري بفستانها الأحمر وهي تحمل لافتة صغيرة تقول: “أوقفوا القتل نريد أن نبني وطناً لكل السوريين”. وغرقت في هذه اللجة أناشيد التظاهرات والعبارات البليغة في تعبيرها على اللوحات البسيطة المرتجلة في كل مكان من سوريا. وغابت الرقصات المتوثبة كالنوابض للشباب الثائرين في الميادين. وغابت نكهة تسميات أيام الجمع وقراءة دلالات التسميات والخلافات حولها. خسرت الكلمات دلالاتها وصارت باهتة لا تلفت الانتباه، ومنهكة فلا تحسن الوقوف على قدميها. لم تعد سماء سوريا قادرة على الفرح ببالونات حمر تخرج في وقت واحد من مئات الشبابيك السورية تعبيراً عن التضامن مع المعتقلين. لم تعد قلوب السوريين تتسع لأزهار القرنفل الأحمر وهي تتراكم في مكان مختار في المرجة وسط دمشق للتعبير عن الإصرار والوحدة في وجه النظام المستبد. تعبت قلوب السوريين فلم تعد قادرة على السخرية. لم تعد “الله أكبر” صيحات تمرد ضد الاستبداد، أو طريقة سورية لإعلان التمرد والرفض، أو عبارة جامعة تشدّ عزيمة القلوب المرتجفة أمام القمع فتنبئها أن ثمة “الله” فوق كل جبار، بل صارت كلمات غريبة يفتتح بها أناس غرباء أعمال القتل والاغتصاب والتدمير بعدما غدا اللحم السوري لقمة سهلة لكل من يستطيع.
ضاقت صدور السوريين ولم تعد تتسع لقول مخالف. غطّت المأساة على إحساس السوريين فباتوا يألفون الموت الظالم للأطفال ويقبلونه كأنه تمثيل على خشبة مسرح. كما غطّت المأساة على عقول السوريين فصار همّهم التحقيق في من ارتكب الجريمة أكثر من همّهم في تفكيك بيئة الإجرام التي تبتلع سوريا شيئاً فشيئاً. صار توثيق الموت أهمّ من الموت ذاته. بات في سوريا من يستطيع أن يثبت الكاميرا على وجه طفل يلفظ أنفاسه الأخيرة جرّاء غاز سام. بات فيها من يستطيع تصوير إنسان يحاول الفرار من موت مقدَّر له بين حائط وسبطانات رشاشات تلاحقه. صار السوريون يحملون على هواتفهم المحمولة مئات الصور المرعبة ومقاطع الفيديو الرهيبة يتبادلونها كأنها هدايا. ضاقت سوريا حتى غدت محتجَزة في تخوم الطوائف والأقوام، فلم تعد قادرة على استيعاب أبنائها الذين توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها.
صور الدمار والموت غير المسبوقة لم تعد في حاجة إلا إلى يد تكتب تحتها: لعنة السكوت. سكت السوريون طويلاً على مظالمهم فدفعوا جملةً كل ما اعتقدوا أنهم وفّروه بسكوتهم من أضرار فردية. الدرس الذي تحمله سوريا اليوم إلى سوريا الغد التي ستخرج من رحم هذا الألم، أن السكوت على قتل فرد أو اعتقاله ظلماً، يعني السيرَ خطوة على طريق لا تفضي إلا إلى قتل الشعب واعتقاله.
النهار