رجال واقفون خلف الديكتاتور/ عبّاد يحيى
لا شيء يبعث على الحزن والأسى أكثر من معايشة المرء ثلاث ثورات على الأقل، من دون أن يدرك أن الديكتاتور هو مجرد وجه للنظام، بل قشرة رقيقة هزيلة لوجه النظام، وأنه من دون الرجال الواقفين خلفه، بما يمثلونه من تحالفات أمنية واقتصادية واجتماعية وطائفية، مجرد شخص أفرزته تلك التحالفات إلى الواجهة، وقد لا ينعم بخيرات المنصب ذاك، مثل ما يفعل ممثلو التحالفات تلك.
والواقفون خلف الديكتاتور، وتحت كرسيه، لا ينزعجون من إطلاق أبشع أنواع التهجم والنقد والنقض للدكتاتور، فهذا يكرّسه تعبيراً وحيداً عن “النظام”، ويعزز مثوله في ذهن الجماهير على أنه “كل شيء”، وسبب “كل شيء”، ولن يتردد هؤلاء عند إزاحته في تصوير أن حقبةً انتهت، وأخرى بدأت. بل يمكن القول بجرأة إنه يدفع أثماناً أبهظ من الواقفين خلفه، وهذا ما يدفعهم إلى الإصرار على بقائه. ووجود نزاع على مقعد الحاكم، في أي دولة، يعكس أول ما يعكس حالة التوتر في تحالف الرجال الواقفين خلف المتنازعين على الكرسي، وطيّ حاكم السنوات تباعاً، وهو مستقر على كرسيه، يعكس متانة تحالف الواقفين خلفه بالدرجة الأولى.
في هذا السياق، انشغل المصريون، من باب السخرية السوداء، بـ”الراجل الواقف ورا عمر سليمان”، والأخير كان يعلن (تنحّي) حسني مبارك؛ أكثر من انشغالهم بالرجال الواقفين خلف عبد الفتاح السيسي، الذين كانوا أجلى تمثيل للقناعة البديهية بأن الديكتاتور من دونهم لا يقف، وأن الأحاديث البالية عن كاريزما الحاكم، وشخصيته، وطريقته في أسر الأفئدة وتكبيل الجماهير لا قيمة لها، ولا تصلح لتفسير بقاء النظام وقوته.
قد يرى كثيرون أننا أدركنا في هذه المرحلة من تاريخنا العربي حقيقة الديكتاتور، وأن بقاءه ونظامه رهن بقاء تحالفات الواقفين خلفه، إلا أن التناول الإعلامي للانتخابات الرئاسية في الجزائر يدل، مرة أخرى، على أن هنالك من يجهد في اختزال المأزق كله بشخص الرئيس، أو الحاكم، وتصوير رحيله نهاية لزمن وبداية لآخر، وتثبيت هذه الحالة، أو الصورة، هو اجتماع جهد الخصوم والمناصرين.
صحيح أن صورة عبد العزيز بوتفليقة يصوّت لنفسه على كرسي متحرك، حمّالة مقاربات ودلالات. وبالكاد، يمكن للمرء تجنب إغراء الحديث عنها، ساخراً أو ناقداً أو باحثاً عن رمزية ما، أو مجتهداً في اجتراح مجرد طرفة، أو شتيمة مغلقة بنكتة؛ إلا أن تناولها، على هذه الشاكلة، مع تركيزٍ على العجوز وحده، يكشف الكثير من تعثر فهم حالة النظم الديكتاتورية، ويكشف، أيضاً، ترسّخ نزوع، في المنطقة العربية، إلى قراءة التاريخ والتجارب السياسية، مع مركزة عالية للفرد، وتركيز عليه، حتى يغدو تاريخ الأمم، برمتها، تاريخ أفراد بعينهم، قادوها إلى انتصارات، أو كبّدوها هزائم. وقراءة التاريخ على أنه تاريخ أفراد محببة للديكتاتور وأعوانه، لأنها تكرّس قناعةً بأن رحيله يعني الفوضى فقط، وأن الجموع والجماهير لا تحرّك التاريخ، ولا تغيّره.
ليست هذه المغالطة القاتلة مجرد طريقةٍ في فهم التاريخ، وتبسيطه، بل هي ركيزة أساسية في فهم الحاضر والمستقبل والتعامل معهما، وفهم وعورة درب تفعيل المشاركة الجماهيرية في العمل السياسي، فالحاضر، كما الماضي، بحاجة لفرد ما، لرجلٍ يواجه رجلاً، كأنها مبارزة بالسيف، لشخص واحد قادر على فعل كل شيء، كما يفعل الديكتاتور، وكما فعل أمثاله في الماضي، حتى المستقبل كالماضي، بحاجة لفرد واحد، مخلّص منتظر في حالات كثيرة ربما.
في زمننا الراهن، درج رسامو الكاريكاتير على تصوير الديكتاتور يأكل أجساد شعبه تارة، ويتشّبث بكرسي أحمر، مذهّب ويحتضنه، وغيرها من المقاربات الشبيهة، وركزّ المصورون عدسات كاميراتهم على وجه الديكتاتور وانفعالاته وحركته. وفي حالة بوتفليقة، احتل الكرسي المتحرك بعجلاته، والرأس المطلّ من شاشة الحاسوب؛ الصورة كلها، إلا أن إمعان النظر قليلا في الصور، أو توسيع إطارها، يظهر الرجال الواقفين خلفه، كانوا يبتسمون، وهم في كامل الرضى، ويتمتعون بصحة وافرة وشباب واضح، وزيادة في النكاية، كان بينهم طفل يلبس نظارة سوداء، ويمشي واثقاً بزيّ رسمي.
جميع حقوق النشر محفوظة 2014
العربي الجديد