صفحات العالم

رجـــاء: ابتـعـدوا عـن هـويــة سـوريــا

 

جميل مطر

السؤال المطروح الآن موجه إلى المعارضة السورية:

أي سوريا تريدون؟ تريدونها متحررة من نظام متوحش فاسد؟

هذا معروف. لم تقولوا لشعبكم بعد، على أية هيئة

وشكل تريدونها بعد تحريرها

أسئلة قديمة تبحث عن أجوبة جديدة، هكذا تعرفت على سوريا عندما أقدمنا على إعداد أول دراسة عن النظام الإقليمي العربي. ما أن يمس الكاتب بقلمه الشأن السوري، في أي مرحلة، إلا ويجد نفسه يسأل سؤالا يظنه جديدا فإذا به يكتشف أن كثيرين سبقوه إليه بنصه أو بصياغة أخرى قبل ثلاثين عاما وأحيانا قبل عشرين قرنا أو ما يزيد.

[[[

كان سؤال الهوية مطروحا دائما. طرحه سياسيون ومؤرخون ومعلقون يوم سلمت سوريا عن بكرة أبيها مقاليدها بملء إرادتها الحرة إلى جمال عبد الناصر. لم تضع شروطا ولم تطلب امتيازات ولم تشكك في نيات الرجل وأهدافه، ولم تكن قد سمعت عنه قبل ست سنوات. وقتها بحث وسأل كثيرون عن تفسير لحالة بدت فريدة. حالة دولة صغيرة حديثة الاستقلال، تتنازل عن استقلالها الغض وتقترح الاندماج في دولة عربية أكبر. كان السؤال غير مسبوق وكان الأمل أن تكون هناك إجابة شافية.

جاءت الإجابة وكانت بالفعل غير متوقعة. وقتها قال السوريون: ألا تذكرون خطاب أول رئيس للجمهورية السورية ألقاه أثناء احتفال الأمة برفع علم الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وبعد نضال دام أكثر من ربع قرن، ونضال دام قرونا ضد الاستعمار العثماني، يومها خاطب الرئيس شعبه قائلا إنه يرفع العلم السوري عاليا في سماء دمشق، وهو على أتم استعداد لإنزاله ليرفع مكانه علم الوحدة العربية.

[[[

مرة أخرى، يطرح السؤال نفسه، وبمعنى أدق يطرحه العالم بأسره وإن بصيغة مختلفة. السؤال المطروح الآن يتوجه إلى المعارضة السورية بكل عناصرها، ولا أقول أطيافها، أي سوريا تريدون؟ تريدونها متحررة من نظام متوحش وفاسد؟ نعرف هذا وتعرفه شعوب الأرض قاطبة. ولكنكم لم تقولوا لشعبكم ولمحبي شعبكم وللشعوب الثائرة من حولكم، على أي هيئة وشكل وحكم تريدونها بعد تحريرها. بالله عليكم، لا تجيبوا الإجابة الخائبة التي قدمها ذات يوم بعض أشقائكم في مصر وتونس الذين قالوا دعونا نتحرر أولا. هكذا يفلت سؤال الهوية في سوريا من الإجابة كما أفلت في غيرها. وهكذا تشتتت جهود المعارضة في سوريا ونجح الحكم، وغيره من القوى المضادة للتحرر، في دعم مواقعها واستمر الشعب يدفع الثمن بأرواحه ودمائه وممتلكاته.

[[[

في الوقت نفسه سألنا سؤالا عرفنا إجابته منذ اليوم الأول، مع ذلك بتنا نردده بلا ملل ولا خجل. سألنا: هذا العالم من حولنا، لماذا لا يتحرك؟ راح من القتلى السوريين سبعون ألفا وتشرد مئات الألوف وربما الملايين. تجوع سوريا وتتجمد أطرافها من الصقيع. كبرياء سوريا صار هدفا لكل قناص ومرتزق.

الإجابة موجعة، كانت موجعة وما زالت موجعة، ومع ذلك نستمر في توجيه السؤال. الشعب لم يقصر منذ اليوم الأول للثورة، ولكن قصر من ادَّعوا، بحق أو بغير حق، وبنية طيبة ودوافع وطنية وخالصة أو بنيات الاستعراض والاسترزاق ولزوم الوجاهة، أنهم يمثلون هذا الشعب في الخارج.

وجدت إجماعا يسود من اتصلت بهم من المتابعين المتعاطفين مع ثورة السوريين، على أن المعارضة الخارجية تتحمل أكثر من غيرها مسؤولية ميوعة الموقف الدولي أو تراخيه. أسباب هذا الحكم على قسوته تبدو لي على الأقل واضحة ولا تحتاج إلى مزيد من الإقناع. هؤلاء حسب المحصلة النهائية وهي دامية، لم يفلحوا، وربما لم يحاولوا بشكل جدي ومقنع، توحيد صفوفهم والاتفاق مقدما على خطوط عامة تتعلق بهوية سوريا بعد التحرير وطبيعة وخطط عمليات الانتقال. هؤلاء تركوا للبعض منهم حرية تسليم «إرادة المعارضة» لقوى عربية وإقليمية بعينها، قامت بدورها بفرز المعارضة وتعزيز قوة فصائل على حساب أخرى وربما تعمدت منع توحيد المعارضة. هؤلاء، من ناحية ثالثة، أغرقوا الساحة الإعلامية والسياسية بتصريحات غير مدروسة وغير متناسقة شتتت تفكير صانعي السياسة في الدول الكبرى، أو أكدت لهم هشاشة قيادات المعارضة السياسية. هكذا نشأت، وفي رأي كثيرين، تعززت لامبالاة الغرب تجاه تدهور الكارثة السورية، ونشأت أو تعززت قناعة روسيا بأن الحكم في دمشق لن يتنازل ببساطة لقيادة على هذه الدرجة من العنف والانقسام وغياب أهداف ما بعد التحرير.

[[[

هنا، يجب أن نسأل مع السائلين: هل هناك تفسيرات أخرى للموقف الذي اتخذته روسيا منذ بدء الأزمة وما زالت مصرّة عليه؟ يسود الاعتقاد بين مفاوضين وديبلوماسيين من الذين أتحدث معهم، سواء في مواقع النفوذ والسلطة أم في دوائر التأثير والضغط، إن في الأمر لغزا؟ يقولون لا يعقل ان تتصلب روسيا في موقعها الذي يبدو داعما للأسد غير عابئة بدرجة عالية من السخط تحيط بها في جميع أنحاء العالم العربي وفي الغرب أيضا، وبخاصة في أميركا.

يقول الروس، وفي ما يقولون ما يستحق الانتباه ولا أقول تبنيه. هناك أمران قد لا يهتم بهما المواطن العربي، والسوري خاصة، رغم أنهما على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للسلام والأمن في العالم وبخاصة في الشرق الأوسط يعيب الروس على الولايات المتحدة حملتها المتعمدة، لتحميل روسيا وحدها مسؤولية تدهور الأوضاع في سوريا، بينما، وهذا هو الأمر الأول الذي يستحق الانتباه، الأتراك وأطراف عربية معينة هي التي يجب أن يوجه إليها الاتهام في تصعيد التوتر والقتل والتشريد. يقول المسؤولون الروس إنهم حاولوا، بكل الطرق ومنذ البداية، تنبيه الشعوب العربية وبخاصة الشعب السوري إلى أن القوى الكبرى جميعا بما فيها روسيا ترفض التدخل الأجنبي، ولن تتدخل مهما حدث. ومع ذلك ظلت المعارضة في الخارج وبعض الدول العربية والإقليمية تدفع، وتطالب بتدخل تعلم سلفا استحالة وقوعه. تتهم روسيا واشنطن بأنها استغلت موقفها من التدخل الأجنبي لتجديد فرص تصعيد حرب باردة جديدة لإنهاك روسيا، وتجميد فرص روسيا في تطوير علاقاتها الخارجية واستعادة مكانة دولية مناسبة.

[[[

يقولون أيضا، وهذا هو الأمر الثاني الذي يستحق الانتباه، إن تجربة ليبيا أثبتت سوء نيات دول غربية في الإصرار على التدخل الخارجي في الثورة الليبية. لقد تصرفت روسيا بحسن نية عندما وافقت على استصدار قرار من مجلس الأمن يسمح للمجتمع الدولي بفرض غطاء جوي يحمي المدنيين الليبيين، فإذا ببريطانيا وفرنسا يستغلانه لإنزال جنود على الأرض واستغلته الولايات المتحدة وأطراف عربية لإرسال فصائل من المخابرات والجواسيس. لذلك وقفت روسيا بشدة ضد جميع المحاولات التي تهدف إلى إصدار قرار من أي نوع تتوحد فيه الدول الأعضاء ويتعلق بسوريا، لأنها واثقة من أن الدول الغربية الكبرى أو بعضها سيستخدم هذا القرار للتدخل العسكري في سوريا لتحقيق مصالحه الخاصة. ولا شك بأن روسيا لن تغفر ما تعتبره خداعا وسوء نية، حين عملت بريطانيا وفرنسا على إبعاد المصالح الروسية من ليبيا فور إسقاط القذافي.

[[[

التجربة في ليبيا خلّفت مرارة في روسيا، ولكن لا يخفى أن للروس كغيرهم مشكلة حقيقية مع سؤال «الهوية السورية»، الذي طرحته في بداية هذا المقال، باعتبار أن هذا السؤال هو المفتاح لفهم سوريا وتطورات أحداثها قبل الثورة وخلالها وبعدها. كثيرون من الذين يحملون روسيا وحدها المسؤولية عن بطش الحكم السوري وصموده في وجه ثورة عارمة وحقيقية لا يقدرون حق قدره «العامل الجغرافي التاريخي ـ العقائدي» في الموضوع. لا يقدرون أن الأراضي الروسية تقع على مسافة لا تزيد على 1000 كيلومتر من سوريا، أي أنها تقع على مرمى صواريخ متوسطة المدى قد تكون في حوزة فصيل في السلطة الذي سيتولى حكم سوريا بعد رحيل نظام الأسد. يسأل محلل روسي له مكانته: «كيف نأمن إلى معارضة منقسمة غير موحدة الهدف والهوية، لم تستطع حتى الآن، ولعلها لم تحاول، أن تطمئن المسؤولين الروس إلى أنه لن يكون بين قادتها فصائل تكنّ العداء لروسيا وتهدد أمنها وسلامتها أو تكون عاملة في خدمة منظمات سبق لها أن أزهقت أرواحا في روسيا، ويضيف: «إن وجود معارضة بهذا الشكل وبعناصر تمولها قوى عربية وإقليمية مولت إرهابيين في القوقاز، لا شك تثير لدى روسيا أسئلة عديدة وشكوكا كثيرة حول هوية سوريا بعد التحرير، ومستقبل علاقات سوريا ليس فقط بروسيا ولكن أيضا بالإقليم كله».

[[[

أعرف أن مصر، من جانبها، رغم ظروفها الشاقة ورغم الضغوط الإقليمية والدولية المفروضة على حركتها الخارجية، وبعد سنوات بل عقود من النأي بالنفس عن الإقليم الذي تعيش فيه، تحاول التأثير في الحالة السورية بما يحقق استمرار الثورة ووقف القتل والدمار والوصول إلى بر الحوار المقبول. يدرك المفاوضون المصريون أن الصعوبات التي تلقى في طريقهم تنعكس بدورها على جهود تبذل لحل مشكلات مصرية عويصة. لا ينكرون أن الجهود التي تبذلها الترويكا المصرية ــ الإيرانية ــ التركية مستمرة، وما زالت مقبولة من أطراف سورية مهمة، وتدعمها المملكة العربية السعودية على غير ما تفعله دول عربية أخرى.

أستطيع أن أفهم مواقف دول تورطت في الحرب الدائرة في سوريا، وتورطت في تشجيع فصائل معينة أثار وجودها المسلح على الأراضي السورية مخاوف دول إقليمية وعربية أخرى. أستطيع أن أتصور أيضا خطورة استمرار التورط في صنع «هوية» جديدة لسوريا بعد التحرير. هؤلاء لم يدركوا بعد أهمية «مسألة الهوية السورية» وأبعادها. هم أيضا لم يقرأوا بتأنٍ التطورات الأخيرة في الموضوع الكردي واشتقاقاته في كل من سوريا وتركيا وإيران ودول الشتات.

تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى